الثانية قال : (أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) والإيفاء : عبارة عن الإتيان به على الكمال والتّمام ، ولا يحصل ذلك إلّا إذا أعطى قدرا زائدا على الحق ، ولهذا المعنى قال الفقهاء : إنّه تعالى أمر بغسل الوجه وذلك لا يحصل إلّا عند غسل كلّ جزء من أجزاء الرّأس.
فالحاصل : أنه تعالى نهى في الآية الأولى عن النّقصان ، وفي الثانية أمر بإعطاء شيء من الزيادة ، فكأنّه تعالى نهى أولا عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصا ليحصل له تلك الزيادة ، وفي الثانية أمر بأن يسعى في تنقيص مال نفسه ليخرج ماله من غير العوض.
وقوله : «بالقسط» يعني : بالعدل ، ومعناه الأمر بإيفاء الحقّ بحيث يحصل معه اليقين بالخروج عن العهدة ، فالأمر بإيتاء الزّيادة على ذلك غير حاصل.
والبخس : هو النّقص.
ثم قال : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).
فإن قيل : العثوّ : الفساد التّامّ ، فقوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) جار مجرى قولك : ولا تفسدوا في الأرض مفسدين.
فالجواب من وجوه :
الأول : أن من سعى في إيصال الضّرر إلى الغير ، فقد حمل ذلك الغير على السعي إلى إيصال الضرر إليه فقوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) ولا تسعوا في إفساد مصالح الغير ، فإنّ ذلك في الحقيقة سعي منكم في إفساد مصالح أنفسكم.
والثاني : أن يكون المراد من قوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) مصالح دنياكم وآخرتكم.
والثالث : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) مصالح الأديان والشرائع.
ثم قال : (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) العامّة على تشديد ياء «بقيّة». وقرأ (١) إسماعيل بن جعفر ـ من أهل المدينة ـ بتخفيفها قال ابن عطيّة : «وهي لغة».
وهذا لا ينبغي أن يقال ، بل يقال : إن لم يقصد الدّلالة على المبالغة جيء بها مخففة وذلك أنّ «فعل» بكسر العين إذا كان لازما فقياس الصّفة منه : «فعل» بكسر العين نحو : سجيت المرأة فهي سجية فإن قصدت المبالغة قيل : سجيّة ، لأنّ فعيلا من أمثلة المبالغة فكذلك «بقيّة وبقية» أي : بالتّشديد والتّخفيف.
قال المفسّرون (بَقِيَّتُ اللهِ) هي تقواه. قال ابن عباس : ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير ممّا تأخذونه بالتطفيف (٢). وقال مجاهد : (بَقِيَّتُ اللهِ) يعنى
__________________
(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٩٩ ، والبحر المحيط ٥ / ٢٥٣.
(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٩٨).