والصّلاح وإخفاء موجبات الفتن ، فلو كانت هذه الدعوة باطلة لما اشتغل بها ، ثمّ لمّا بيّن صحة طريقته أشار إلى نفي المعارض وقال : لا تحملكم عداوتي على مذهب ودين تقعون بسببه في العذاب الشّديد من الله ، كما وقع فيه أقوام الأنبياء المتقدمين ، ثم إنّه لمّا صحّح مذهب نفسه بهذه الدلائل عاد إلى تقرير ما ذكره أولا وهو التوحيد والمنع من البخس بقوله : (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) ثم بيّن لهم أنّ سبق الكفر والمعصية منهم لا ينبغي أن يمنعهم من الإيمان والطّاعة ؛ لأنّه تعالى رحيم ودود يقبل الإيمان من الكافر والفاسق ؛ لأنّ رحمته بعباده وحبه لهم يوجب ذلك ، وهذا تقرير في غاية الكمال.
قوله : (قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ).
قيل : المعنى : ما نفقه كثيرا ممّا تقول ؛ لأنّهم كانوا لا يلقون إليه أفهامهم لشدّة نفورهم من كلامه ، كقوله : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) [الأنعام : ٢٥]. وقيل : إنّهم فهموه ، ولكنّهم ما أقاموا له وزنا ، فذكروا هذا الكلام على سبيل الاستهانة ، كقول الرّجل لمن لم يعبأ بحديثه : ما أدري ما تقول.
وقيل : ما ندري صحة الدّليل الذي ذكرته على صحّة التوحيد والنّبوة والبعث ، وما يجب من ترك الظّلم والسرقة.
فصل
استدلّوا بهذه الآية على أنّ الفقه : اسم لعلم مخصوص ، وهو معرفة غرض المتكلم من كلامه ؛ لأنه أضاف الفقه إلى القول ، ثم صار اسما لنوع معيّن من علوم الدين ، وقيل : إنّه اسم لمطلق الفهم ، يقال : أوتي فلان فقها في الدّين ، أي : فهما. قال عليه الصلاة والسّلام : «يفقهه في الدين» (١) أي : يفهمه تأويله.
ثم قال : (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) قيل : الضّعيف الذي يتعذر عليه منع القوم عن نفسه.
وقيل : هو الأعمى بلغة حمير. وهذا ضعيف ؛ لأنه ترك للظاهر بغير دليل ، وأيضا فقوله : «فينا» يبطل هذا الوجه ؛ لأنّهم لو قالوا : إنّا لنراك أعمى فينا كان فاسدا ؛ لأنّ الأعمى أعمى فيهم وفي غيرهم. وأيضا قولهم بعد ذلك (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) فنفوا عنه القوّة التي أثبتوها في رهطه وهي النّصرة ؛ فوجب أن تكون القوة التي نفوها عنه هي النّصرة.
واستدلّ بعض العلماء بهذه الآية على تجويز العمى على الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسّلام ـ. وذلك اللّفظ لا يدلّ عليه ، لما بيّناه.
قال بعض المعتزلة : لا يجوز العمى على الأنبياء ، فإنّ الأعمى لا يمكنه التّجوز عن
__________________
(١) أخرجه البخاري (١ / ١٩٧) كتاب العلم باب من يرد الله به خيرا حديث (٧١) ومسلم (٢ / ٧١٨ ـ ٧١٩) كتاب الزكاة : باب النهي عن المسألة حديث (٩٨ / ١٠٣٧) من حديث معاوية.