قال القرطبيّ (١) : «وروي عن عثمان أيضا. وقاله مالك فيما رواه وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم : أنّه لمّا سقط أولها سقط «بسم الله الرحمن الرّحيم» معا ، وروي ذلك عن عجلان ؛ أنّه بلغه أنّ سورة «براءة» كانت تعدل البقرة أو قربها ، فذهب منها ؛ فلذلك لم يكتب بينهما «بسم الله الرّحمن الرّحيم» وقال سعيد بن جبير : كانت قبل سورة الطلاق البقرة».
قال القرطبيّ : «والصحيح أنّ البسملة لم تكتب ؛ لأنّ جبريل ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ما نزل بها في هذه السّورة ، قاله القشيريّ».
وفي قول عثمان «قبض رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولم يبيّن لنا أنّها منها» دليل على أنّ السور كلها انتظمت بقوله وتبيينه وأن «براءة» ضمت إلى الأنفال من غير عهد من النبي صلىاللهعليهوسلم ، لما عاجله من الحمام قبل تبيينه ذلك ، وكانتا تدعيان القرينتين ؛ فوجب أن تجمعا وتضمّ إحداهما إلى الأخرى ؛ للوصف الذي لزمهما من الاقتران ، ورسول الله صلىاللهعليهوسلم حيّ.
قوله تعالى : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)(٤)
قوله تعالى (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) الآية.
الجمهور على رفع براءة ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنّها رفع بالابتداء ، والخبر قوله «إلى الّذين» وجاز الابتداء بالنّكرة ؛ لأنّها تخصّصت بالوصف بالجارّ بعدها ، وهو قوله من الله كما تقول رجل من بني تميم في الدّار.
والثاني : أنّها خبر ابتداء مضمر ، أي : هذه الآيات براءة ، ويجوز في من الله أن يكون متعلقا بنفس براءة ؛ لأنها مصدر ، كالثّناءة والدّناءة. وهذه المادة تتعدّى ب «من» ، تقول : برئت من فلان ، أبرأ براءة ، أي : انقطعت العصبة بيننا ، وعلى هذا ، فيجوز أن يكون المسوّغ للابتداء بالنّكرة على الوجه الأوّل هذا. وإلى الّذين متعلق بمحذوف على الأوّل ، لوقوعه خبرا ، وبنفس «براءة» على الثّاني ، ويقال : برئت ، وبرأت من الدين ، بالكسر والفتح ، وقال الواحديّ : «ليس فيه إلّا لغة واحدة ، كسر العين في الماضي وفتحها في المستقبل». وليس كذلك ، بل نقلهما أهل اللغة ، وقرأ (٢) عيسى بن عمر «براءة» بالنصب على إضمار فعل أي اسمعوا براءة.
__________________
(١) ينظر : تفسير القرطبي ٨ / ٤١.
(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٤٢ ، المحرر الوجيز ٣ / ٤ ، البحر المحيط ٥ / ٦ ، الدر المصون ٣ / ٤٤٠.