أختاره قول من قال : خلق فريقا لرحمته ، وفريقا لعذابه ، ويؤيده قوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
وقوله صلىاللهعليهوسلم : «خلق الله الجنّة وخلق لها أهلا ، وخلق النّار وخلق لها أهلا» (١).
وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك رضي الله عنهم : وللرّحمة خلقهم ، يعني الذين رحمهم (٢). وقال الفراء : خلق أهل الرّحمة للرّحمة ، وأهل الاختلاف للاختلاف. ومحصول الآية أنّ أهل الباطل مختلفون ، وأهل الحقّ متّفقون ، فخلق أهل الحق للاتفاق ، وأهل الباطل للاختلاف.
وذهبت المعتزلة إلى قول ابن عبّاس ، وهو أنّه خلقهم للرّحمة ، قالوا : ولا يجوز أن يقال : وللاختلاف خلقهم ، لوجوه :
الأول : أنّ عود الضّمير إلى أقرب المذكورين أولى من عوده إلى أبعدهما.
والثاني : لو خلقهم للاختلاف وأراد منهم ذلك لم يجز أن يعذبهم عليه ، إذا كانوا مطيعين له بذلك الاختلاف.
الثالث : أنّا إذا فسرنا الآية بالرحمة كان مطابقا لقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦].
فإن قيل : لو كان المراد ، وللرّحمة خلقهم لقال : ولتلك خلقهم ، ولم يقل : ولذلك خلقهم. قلنا : إن تأنيث الرّحمة ليس حقيقيّا ، فكان محمولا على الفضل والغفران ، كقوله : (هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) [الكهف : ٩٨] وقوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦].
فصل
احتج من قال بأنّ الهداية والإيمان لا يحصل إلّا بخلق الله تعالى بهذه الآية ، وذلك لأنّها تدلّ على أنّ زوال الاختلاف في الدّين لا يحصل إلّا لمن خصّه الله برحمته ، وتلك الرحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل ، وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وإزاحة العذر ، فإنّ كلّ ذلك حاصل للكفار ، فلم يبق إلّا أن يقال : تلك الرحمة هو أنّ الله ـ تعالى ـ يخلق فيه تلك الهداية والمعرفة.
قوله تعالى : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ).
قال القاضي (٣) معناه : إلا من رحم ربّك بأن يصير من أهل الجنة ، والثواب ،
__________________
(١) تقدم.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٤٠) عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٦٤٥) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٠٦).
(٣) ينظر : الفخر الرازي ١٧ / ٦٢.