في رفع الحدث نجس ، ثم روى أبو يوسف عن أبي حنيفة : أنّه نجس نجاسة خفيفة ، وروى الحسن بن زياد : أنّه نجس نجاسة غليظة ، وهذه الآية تدلّ على فساد هذا القول ؛ لأن كلمة «إنّما» للحصر ، فاقتضى أن لا نجس إلّا المشرك ، فالقول بأنّ أعضاء المحدث نجسة ، يخالف هذا النّص ، والعجب أن هذا النص صريح في أن المشرك نجس ، وفي أنّ المؤمن ليس بنجس ، ثم إنّ قوما قلبوا القضية ، وقالوا : المشرك طاهر ، والمؤمن حال كونه محدثا نجس ، وزعموا أنّ المياه التي يستعملها المشركون في أعضائهم بقيت طاهرة مطهرة ، والمياه التي يستعملها أكابر الأنبياء في أعضائهم نجسة نجاسة غليظة ، مع مخالفة قوله عليه الصلاة والسّلام : «المؤمن لا ينجس حيّا ، ولا ميتا» وأجمعوا على أنّ إنسانا لو حمل محدثا في صلاته لم تبطل صلاته ، ولو كان يده رطبة فوصلت إلى يد محدث لم تنجس يده ، ولو عرق المحدث ووصل العرق إلى ثوبه لم ينجس الثوب ، والقرآن ، والخبر ، والإجماع ، تطابقت على القول بطهارة وأعضاء المحدث ، فكيف يمكن مخالفته؟.
فصل
قيل المراد بالمسجد الحرام : نفس المسجد ، وقيل : جميع الحرم ، وهو الأقرب لقوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وذلك لأن موضع التجارات ليس هو عين المسجد ؛ فلو كان المقصود من هذه الآية المنع من المسجد خاصة ، لما خافوا بسبب هذا المنع من العيلة ، وإنّما يخافون العيلة إذا منعوا من حضور الأسواق والمواسم ، ويؤكد هذا قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [الإسراء : ١] مع أنّهم أجمعوا على أنه إنّما رفع الرسول من بيت أم هانىء ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسّلام «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» (١) وهي من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق طولا ، ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشّام عرضا ، واعلم أنّ جملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام :
أحدها : الحرم ، فلا يجوز للكافر أن يدخله بحال ذمّيّا كان أو مستأمنا ، لظاهر هذه الآية ، وإذا جاء رسول من دار الكفر إلى الإمام ، والإمام في الحرم ، لا يأذن له في دخول الحرم ، بل يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم ، وإن دخل مشرك الحرم متواريا فمرض فيه ، أخرجناه مريضا ، وإن مات ودفن ولم نعلم نبشناه ، وأخرجنا عظامه إذا أمكن ، وجوّز أهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم.
والقسم الثاني من بلاد الإسلام : الحجاز ، فيجوز للكافر دخولها بالإذن ، ولكن لا يقيم أكثر من ثلاثة أيّام ، مقام السفر ، لما روي عن عمر بن الخطاب ، أنه سمع رسول الله
__________________
(١) أخرجه البيهقي (٩ / ٢٠٨) وعبد الرزاق في «المصنف» (٩٣٥٩) وأخرجه مالك (٢ / ٨٩٣) عن الزهري مرسلا وأخرجه البخاري كتاب الجزية والموادعة : باب إخراج اليهود من جزيرة العرب ومسلم كتاب الوصية : باب ترك الوصية لمن ليس له شيء من حديث ابن عباس.