قوله : (فِي كِتابِ اللهِ) يجوز أن يكون صفة ل : (اثْنا عَشَرَ) ، والتقدير : اثنا عشر شهرا مثبتة في كتاب الله. ثمّ لا يجوز أن يعنى بهذا الكتاب كتاب من الكتب ، لأنّه متعلق بقوله : (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ) وأسماء الأعيان لا تتعلّق بالظروف ، فلا تقول : غلامك يوم الجمعة ، بل الكتاب ههنا مصدر والتقدير : إنّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله ، أي : في حكمه الواقع يوم خلق السموات والأرض.
ويجوز أن يكون بدلا من الظرف قبله ، وهذا لا يجوز ، أو ضعيف ، لأنّه يلزم منه أن يخبر عن الموصول قبل تمام صلته ، فإنّ هذا الجارّ متعلق به على سبيل البدلية ، وعلى تقدير صحة ذلك من جهة الصناعة ، فكيف يصحّ من جهة المعنى؟ ولا يجوز أن يكون (فِي كِتابِ اللهِ) متعلقا ب «عدّة» لئلّا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بخبره وقياس من جوّز إبداله من الظرف أن يجوّز هذا ، وقد صرّح بجوازه الحوفيّ.
قوله : (يَوْمَ خَلَقَ) يجوز فيه أن يتعلّق ب «كتاب» على أنّه يراد به المصدر ، لا الجثة ويجوز أن يتعلّق بالاستقرار في الجار والمجرور ، وهو (فِي كِتابِ اللهِ) ويكون الكتاب جثة لا مصدرا ، وجوّز الحوفيّ أن يكون متعلقا ب «عدّة» وهو مردود بما تقدّم ، ويجوز أن يتعلّق بفعل مقدر ، أي : كتب ذلك يوم خلق.
فصل
هذه الآية أيضا من شرح قبائح اليهود والنّصارى والمشركين ، وهو إقدامهم على تغيير أحكام الله تعالى ؛ لأنّه تعالى ، حكم في كل وقت بحكم خاص ، فإذا غيّروا تلك الأوقات بسبب النّسيء ، كان ذلك سعيا منهم في تغيير حكم السّنة بحسب أهوائهم وآرائهم فكان ذلك زيادة في كفرهم وجرأتهم. فإنّ السّنة عند العرب : عبارة عن اثني عشر شهرا قمرية ، ويدلّ عليه هذه الآية وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [يونس : ٥] فجعل تقدير القمر بالمنازل دليلا على السنين ، وإنّما يصح ذلك إذا كانت السّنة معلقة بسير القمر ، وقال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) [البقرة : ١٨٩] وعند سائر الطوائف : السّنة عبارة عن المدة التي تدور الشمس فيها دورة تامة من فصل إلى فصل ، فيكون الحج واقعا في الشتاء مرّة ، وفي الصيف أخرى ، فشقّ الأمر عليهم بهذا السّبب.
وأيضا إذا حضروا الحجّ حضروا للتجارة ، فربما كان ذلك الوقت غير موافق لحضور التجارات من الشمسية ، فلذلك بقي زمان الحج مختصا بوقت معين موافق لمصلحتهم ، وانتفعوا بتجاراتهم ومصالحهم ، فهذا النّسيء وإن كان سببا لحصول المصالح الدنيوية ، إلّا أنّه لزم منه تغيير حكم الله تعالى ، لمّا خصّ الحجّ بأشهر معلومة على التّعيين ، وكان بسبب ذلك النّسيء يقع في سائر الشّهور تغيير حكم الله تعالى وإبطال تكليفه ؛ فلهذا المعنى استوجبوا الذّمّ العظيم في هذه الآية. والمراد بالكتاب : حكمه