والاحترام ، حتى إنّ الإنسان ربما امتنع في تلك الأزمنة ، وفي تلك الأمكنة عن فعل القبائح ، وذلك يوجب أنواعا من الفوائد.
أحدها : أنّ ترك القبائح في تلك الأوقات أمر مطلوب ؛ لأنه يقل القبائح.
وثانيها : أنّ تركها في تلك الأوقات ربما صار سببا لميل طبعه إلى الإعراض عنها مطلقا.
وثالثها : أنّه إذا أتى بالطّاعات فيها وأعرض عن المعاصي فيها ، فبعد انقضاء تلك الأوقات لو شرع في المعاصي صار شروعه فيها سببا لبطلان ما تحمله من العناء والمشقّة في أداء الطاعات في تلك الأوقات ، والظّاهر من حال العاقل أنّه لا يرضى بذلك فيصير ذلك سببا لاجتنابه عن المعاصي بالكلّية ، فهذا هو الحكمة في تخصيص بعض الأزمنة ، وبعض الأمكنة ، بمزيد التعظيم.
قوله (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي : الحساب المستقيم ، يقال : «الكيّس من دان نفسه» (١) أي : حاسبها ، وقال الحسن : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) الذي لا يبدل ولا يغير (٢) ، «القيّم» ـ ههنا ـ بمعنى : القائم الدائم الذي لا يزول ، وهو الدّين الذي فطر النّاس عليه.
قوله (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) بفعل المعصية ، وترك الطّاعات ، قال ابن عبّاس : «المراد ، فلا تظلموا في الشهور الاثني عشر أنفسكم ، والمراد : منع الإنسان من الإقدام على الفساد في جميع العمر». وقال الأكثرون الضّمير في قوله «فيهنّ» عائد على الأربعة الحرم ، وقد تقدّم. وقيل : المراد ب «الظلم» النّسيء الذي كانوا يعملونه ، فينقلون الحجّ من الشهر الذي أمر الله بإقامته فيه إلى شهر آخر ، وقيل : المراد ب «الظّلم» ترك المقاتلة في هذه الأشهر.
قوله (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) نصب «كافّة» على الحال ، إمّا من الفاعل ، أو من المفعول ، وقد تقدّم أن «كافّة» لا يتصرّف فيها بغير النصب على الحال ، وأنّها لا تدخلها «أل» ؛ لأنها بمعنى قولك : قاموا جميعا ، وقاموا معا ، وأنّها لا تثنّى ، ولا تجمع ، وكذلك «كافة» الثانية ، ومعنى «كافة» أي : جميعا.
فصل
معنى الآية : قاتلوهم بأجمعكم مجتمعين على قتالهم ، كما أنّهم يقاتلونكم على هذه الصّفة ، أي : تعاونوا وتناصروا على ذلك ، ولا تتخاذلوا وكونوا عباد الله مجتمعين متوافقين في مقاتلة الأعداء.
__________________
(١) أخرجه أحمد (٤ / ١٢٤) والترمذي (٢٥٧٧) وابن ماجه (٤٢٦٠) والحاكم (١ / ٥٧ ـ ٤ / ٣٢٥) والطبراني في «الكبير» (٧١٤١ ، ٧١٤٣) وفي «الصغير» (٢ / ٣٦) من طريق أبي بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حبيب عن شداد بن أوس مرفوعا.
(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ٤٣) عن الحسن.