فصل في حقيقة علم التعبير
وحقيقة علم التّعبير : أنه ـ تعالى ـ خلق جوهر النّفس الناطقة ، بحيث يمكنها الصعود إلى عالم الأفلاك ، ومطالعة اللّوح المحفوظ ، والمانع لها من ذلك : اشتغالها بتدبير البدن ، فوقت يقلّ هذا الاشتغال ، يقوى على هذه المطالعة ، فإن وقعت على حالة من الأحوال ، تركت آثارا مخصوصة مناسبة لذلك الإدراك الرّوحاني ، إلى علم الخيال ، فالمعبّر يستدلّ بتلك الآثار الخيالية على تلك الإدراكات القلبيّة.
قال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «الرّؤيا ثلاثة : رؤيا ما يحدّث الرّجل به نفسه ، ورؤيا تحدث من الشّيطان ، ورؤيا جزء من ستّة وأربعين جزءا من النّبوّة» (١).
فصل
في قول يوسف ما أحبني أحد قط إلا دخل عليّ من حبه بلاء ، أو في البلاء الذي حل بيوسف بسبب حب الناس له. روي أنّ الفتيين لمّا رأيا يوسف ، قالا : لقد أحببناك حين رأيناك ، فقال لهما يوسف : ناشدتكما ، لا تحبّاني ؛ فو الله ما أحبّني أحد قط ؛ إلّا دخل عليّ من حبّه بلاء ، لقد أحبّتني عمّتي ، فدخل عليّ بلاء ، ثم أحبّني أبي ، فألقيت في الجبّ ، وأحبّتني امرأة العزيز ، فحبست.
فلما قصّا عليه الرؤية ، كره يوسف أن يعبّر لهما ما سألاه ، لما علم ما في ذلك من المكروه على أحدهما ، فأعرض عن سؤالهما ، وأخذ في غيره ، من إظهار المعجزة ، والدّعاء إلى التّوحيد.
فقال : «لا يأتيكما طعام ترزقانه» قيل : أراد به في النوم ، أي لا يأتيكما طعام ترزقانه (٢) في نومكما ، إلّا نبأتكما بتأويله في اليقظة ، وقيل : أراد به في اليقظة ؛ فقوله (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ) في منازلكما تطعمانه ، وتأكلانه «إلّا نبّأتكما» أخبرتكما «بتأويله» بقدره ، ولونه ، والوقت الذي يصل إليكما ، قبل أن يصل ، وأيّ طعام أكلتم ، وكم أكلتم ومتى أكلتم.
وهذا مثل معجزة عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ حيث قال : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) [آل عمران : ٤٩].
فقال : هذا فعل القوّافين والكهنة ، فمن أين لك هذا العلم؟.
فقال : ما أنا بكاهن ، وإنما ذلك العلم مما علّمني ربّي.
ثم قال : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) ، وفيه سؤال:
__________________
(١) أخرجه ابن ماجه (٣٩٠٧) وأحمد (٢ / ٣٩٥) وعبد الرزاق (٢٠٣٥٢) والحاكم (٣ / ٣٩٠).
(٢) سقط من : ب.