قال القرطبيّ (١) : «انظر إلى قول الملك أولا حين تحقّق علمه : «ائتوني به» ، فقط فلمّا فعل يوسف ما فعل ، قال ثانيا : (ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) والاستخلاص : طلب خلوص الشّيء من شوائب الإشراك».
قال القرطبي (٢) : «أستخلصه» جزم ؛ لأنه جواب الأمر ؛ وهذا يدل على أنّ قوله : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ) ، جرى في السجن ، ويحتمل أنه جرى عند الملك ، ثم قال في مجلس آخر : (ائْتُونِي بِهِ) ؛ تأكيدا.
واختلفوا في هذا الملك ، فقيل : هو العزيز ، وقيل : هو الملك الأكبر. وهذا هو الأظهر لوجهين :
الأول : لقول يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ).
الثاني : أن قوله : (أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) يدلّ على أنه قبل ذلك ، ما كان خالصا له (٣) ، وكان خالصا للعزيز ، فدلّ ذلك على أنّ هذا الملك هو الملك الأكبر.
قوله : (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) ، يجوز أن يكون الفاعل ضمير الملك ، والمفعول ضمير يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وهو الظاهر ؛ لأنّ مجالس الملوك لا يحسن لأحد أن يبدأ فيها بالكلام ، وإنما الملك هو الذي يبدأ ، ويجوز العكس ، وفي الكلام اختصار تقديره : فجاء الرسول يوسف ، فقال له : أجب الملك الآن.
فصل
روي أنّه قام ، ودعا لأهل السّجن ، فقال : اللهمّ اعطف عليهم قلوب الأخيار ، ولا تعمّ عليهم الأخبار ، فهم أعلم النّاس بالأخبار في كل بلد.
فلما خرج من السّجن ، كتب على السجن : هذا قبر الأحياء ، وبيت الأحزان ، وتجربة الأصدقاء ، وشماتة الأعداء ، ثمّ اغتسل ، وتنظّف من درن السّجن ، ولبس ثيابا حسنة وقصد الملك.
وقال وهب ـ رحمهالله ـ : كان يوسف ـ يومئذ ـ ابن ثلاثين سنة ، ولما دخل عليه دعا ، وقال : اللهمّ إني أسألك بخيرك من خيره ، وأعوذ بعزّتك وقدرتك من شرّه ، ثمّ سلّم عليه بالعربيّة ، فقال الملك : ما هذا اللسان؟ قال : لسان عمّي ، إسماعيل ، ثم دعا له بالعبرانيّة ، فقال : ما هذا اللسان؟ قال : لسان آبائي : إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وكان الملك يتكلّم بسبعين لسانا ، وكلّما كلّم يوسف بلسان ، أجابه بذلك اللسان ؛ فأعجب الملك أمره ، وكان يوسف إذ ـ ذاك ـ ابن ثلاثين سنة ، فلما رآه الملك حدثا شابّا ، قال
__________________
(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٩ / ١٣٨.
(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٩ / ١٣٩.
(٣) في ب : لنفسه.