فالجواب : أنّ هذا السّؤال غير مختصّ به ، فإنه لا نزاع في أنّه لا بدّ من إقامة الطّاعات والاحتراز من السّيئات ، مع أنّا نعتقد أنّ السّعيد من سعد في بطن أمه ، والشّقي من شقي في بطن أمّه ، فكذ هاهنا.
وأيضا : نأكل ، ونشرب ، ونحترز عن السموم ، وعن الدّخول في النّار ، مع أنّ الموت والحياة لا يحصلان إلا بتقدير الله ـ سبحانه وتعالى ـ ، فكذا ههنا ، فظهر أنّ السؤال ليس مختصّا بهذا المقام ، بل هو بحث عن سرّ مسألة الخير ، والشرّ.
والحقّ أن العبد يجب عليه أن يسعى بأقصى الجهد ، والقدرة ، وبعد السّعي البليغ ، يعلم أنّ كل ما يدخل في الوجود لا بدّ وأن يكون بمشيئة الله ـ عزوجل ـ وسابق حكمه ، وحكمته.
ثمّ إنّه ـ تعالى ـ أكّد هذا المعنى ، فقال : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) ، وهذا من أدلّ الدّلائل على صحّة القول بالقضاء ، والقدر ؛ لأنّ الحكم عبارة عن الإلزام والمنع ومنه سميت حكمة الدّابّة بهذا الاسم ؛ لأنّها تمنع الدّابّة من الحركات الفاسدة والحكم إنّما يسمى حكما ؛ لأنه يرجح أحد طرفي الممكن على الآخر ، بحيث يصير الطّرف «الآخر» (١) ممتنع الحصول ، فبيّن ـ تعالى ـ أنّ الحكم ليس إلّا لله ، وذلك يدلّ على أنّ جميع الممكنات ترجع إلى قضائه ، وقدرته ، ومشيئته ، وحكمه إمّا بواسطة ، أو بغير واسطة ، ولذلك فوّض يعقوب أمره إلى الله ـ تعالى ـ.
ثم قال : (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) اعتمدت : (وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) ، والمعنى : أنّه لمّا ثبت أنّ الكلّ من الله ـ تعالى ـ ثبت أنّه لا يتوكل إلّا على الله سبحانه وتعالى.
قوله تعالى : (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٦٨)
قوله تعالى : (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) الآية في جواب «لمّا» هذه ثلاثة أوجه :
أظهرها (٢) : أنّه الجملة المنفيّة من قوله : (ما كانَ يُغْنِي) ، وفيه حجّة لمن يدّعي كون [لمّا] حرفا لا ظرفا ، إذ لو كانت ظرفا لعمل فيها جوابها ، إذ لا يصلح للعمل سواه لكن ما بعد: «ما» النّافية لا يعمل فيما قبلها ، لا يجوز حين قام أبوك ما قام أخوك ، مع جواز : لمّا قام أخوك ما قام أبوك.
والثاني : أنّ جوابها محذوف ، فقدّره أبو البقاء ـ رحمهالله ـ : امتثلوا وقضوا حاجته ، وإليه نحا ابن عطيّة أيضا.
__________________
(١) في ب : الأول.
(٢) في أ : أحدها.