(مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) ولم يقل : «من سرق» تحرّزا من الكذب.
فإن قيل : هذه الواقعة من أوّلها إلى آخرها ، تزوير وكذب ، فكيف يجوز ليوسف مع رسالته الإقدام على التّزوير ، وإيذاء النّاس من غير ذنب لا سيّما ويعلم أنّه إذا حبس أخاه عنده بهذه التّهمة فإنه يعظم حزن أبيه ، ويشتدّ غمّه ، فكيف يليق بالرسول المعصوم المبالغة في التّزوير إلى هذا الحدّ؟!.
فالجواب : لعلّه ـ تعالى ـ أمره بذلك تشديدا للمحنة على يعقوب ، ونهاه عن العفو والصّفح ، وأخذ البدل ، كما أمر ـ تعالى ـ صاحب موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقتل من لو بقي لطغى وكفر.
قوله تعالى : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ)(٨٢)
قوله : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا) «استفعل» هنا بمعنى «فعل» المجرّد يقال : يئس ، واستيأس [بمعنى] نحو «عجب واستعجب ، وسخر ، واستسخر.
وقال الزمخشري (١) : وزيادة التّاء والسّين في المبالغة نحو ما مرّ في : «استعصم» وقرأ البزيّ عن ابن كثير (٢) بخلاف عنه : «استيأيسوا» بألف بعد التاء ثم ياء وكذلك في هذه السورة : (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) [يوسف : ٨٧] إنّه لا ييأس (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) ، وفي الرعد : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ) [الرعد : ٣١] الخلاف واحد.
فأمّا قراءة العامة : فهي الأصل ، إذ يقال : يئس ، فالفاء ياء ، والعين همزة وفيه [لغة](٣) أخرى ، وهي القلب [الرعد : ٣١] بتقديم العين على الفاء ، فيقال : أيس ، ويدلّ على ذلك شيئان :
أحدهما : المصدر الذي هو اليأس.
والثاني : أنّه لو لم يكن مقلوبا للزم قلب الياء ألفا ، لتحركها ، وانفتاح ما قبلها ، ولكن منع من ذلك كون الياء في موضع لا تعلّ فيه ما وقعت موقعه ، وقراءة ابن كثير من هذا ، ولما قلب الكلمة أبدل من الهمزة ألفا لسكونها بعد فتحة ، إذ صارت كهمزة رأس ، وكأس ، وإن لم يكن من أصله قلب الهمزة السّاكنة حرف علّة وهذا كما تقدّم أنه يقرأ
__________________
(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٩٤.
(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٦٩ والبحر المحيط ٥ / ٣٣٠ والدر المصون ٤ / ٢٠٤.
(٣) في ب : لغات.