فصل
قال القرطبي (١) : «دلّت هذه الآية على أنّ كل من كان على حقّ ، وعلم أنه قد يظن به أنّه على [خلاف](٢) ما هو عليه ، أو يتوهم أن يرفع التّهمة ، وكلّ ريبة عن نفسه ويصرّح بالحق الذي هو عليه ، حتّى لا يبقى متكلّم ، وقد فعل هذا نبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقوله للرجلين اللّذين مرّا ، وهو قد خرج مع صفيّة بنت حييّ من المسجد : «على رسلكما ، إنّما هي صفيّة بنت حييّ» ؛ فقالا : سبحان الله! وكبر عليهما ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الشّيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم ، وإنّي خشيت أن يقذف في قلوبكما شرّا ، أو قال : شيئا» متفق عليه.
فإن قيل : كيف استجاز يوسف أن يعمل هذا بأبيه ، ولم يخبره بمكانه ، ويحبس أخاه مع علمه بشدّة وجد أبيه عليه ، ففيه معنى العقوق ، وقطيعة الرّحم ، وقلّة الشّفقة؟.
فالجواب : أنّه فعل ذلك بأمر الله ـ عزوجل ـ أمره به ليزيد في بلاء يعقوب ، فيضاعف له الأجر ، ويلحقه في الدّرجة بآبائه الماضين.
وقيل : إنّه لم يظهر نفسه لإخوته ؛ لأنّه لم يأمن أن يدبّروا في أمره تدبيرا ، فيكتموه عن أبيه ، والأول أصح.
قوله تعالى : (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ)(٨٧)
قوله : (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) هذا الإضراب لا بدّ له من كلام قبله متقدم عليه يضرب هذا عنه ، والتقدير : فرجعوا إلى أبيهم ، وذكروا له ما قال كبيرهم ، فقال يعقوب : ليس الأمر كما ذكرتم حقيقة ، (بل سولت) : زيّنت (لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي حمل أخيكم إلى مصر ، وليس المراد منه الكذب كواقعة يوسف.
وقيل : (سولت لكم أنفسكم) أنّه سرق ، وما سرق.
(فصبر جميل) وتقدّم الكلام على نظيره ، وقال هناك : (والله المستعان على ما تصفون) وقال ههنا (عسى الله أن يأتيني بهم جميعا).
__________________
(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٩ / ١٦١.
(٢) سقط من : ب.