الْيَوْمَ) ولو ذكر الجبّ كان تثريبا لهم ؛ ولأن نعمة الله عليه في إخراجه من السجن أعظم ؛ لأنّه بعد الخروج من الجبّ صار إلى العبودية والرق وبعد الخروج من السجن صار إلى الملك ولأنه لما خرج من الجب (١) وقع في المضار بسبب تهمة المرأة ، ولما خرج من السّجن ، وصل إلى أبيه وإخوته وزالت عنه التّهمة.
وقال الواحديّ : «النّعمة في إخراجه من السجن أعظم ؛ لأنّ دخوله في السجن كان بسبب ذنب همّ به ، وهذا ينبغي أن يحمل على ميل الطبع ، ورغبة النّفس ، وهذا ـ وإن كان في محل العفو ـ في حقّ غيره إلا أنه كان سببا للمؤاخذة في حقه ؛ لأنّ حسنات الأبرار سيئات المقربين».
فصل
دلّت هذه الآية على أنّ فعل العبد خلق الله ـ تعالى ـ ؛ لأنّه أضاف إخراجه من السجن إلى [الله تعالى](٢) ، ومجيئهم من البدو إليه ، وهذا صريح في أن فعل العبد فعل الله ـ تعالى ـ فإن حملوه على أن المراد أن ذلك إنّما حصل بإقدار الله ، وتدبيره ، فذلك عدول عن الظّاهر.
ثم قال : (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ) أفسد وأغوى ، وأصله من نزغ الرّاكض الدّابة حملها على الجري إذا نخسها.
احتجّ الجبائيّ ، والكعبيّ ، والقاضي أبو إسحاق بهذه الآية : على بطلان الجبر قالوا لأنه ـ تعالى ـ أخبر عن يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه أضاف الإحسان إلى الله ـ تعالى ـ وأضاف النّزغ إلى الشّيطان ، ولو كان ذلك أيضا من الرحمن ، لوجب أن لا ينسب إلا إليه كما في النعمة.
الجواب : أنّ إضافة هذا القول إلى الشيطان مجاز ؛ لأنّ عندكم الشّيطان لا يتمكّن من الكلام الخفيّ ، كما أخبرالله عنه ، فقال : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [إبراهيم : ٢٢] فظاهر القرآن يقتضي إضافة هذا الفعل إلى الشيطان مع أنه ليس كذلك ، وأيضا : فإن كان إقدام المرء على المعصية بسبب الشّيطان ، فإقدام الشيطان على المعصية إن كان بسبب شيطان آخر ؛ لزم التسلسل وهو محال ، وإن لم يكن بسبب شيطان آخر ، فليقل مثله في حق الإنسان ، فثبت أن إقدام المرء على الجهل والفسق بسبب الشيطان وليس بسبب نفسه لأن أحدا لا يميل طبعه إلى اختيار الجهل والفسق (٣) الذي يوجب وقوعه في الذّم في الدّنيا ، وعذاب الآخرة ولما كان وقوعه في الكفر ، والفسق لا بد له من موقع ، وقد بطل القسمان لم يبق إلا أن يقال : ذلك من الله ـ تعالى ـ ويؤيد ذلك قوله : (أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) وهذا صريح في أنّ الكل من الله ـ تعالى ـ.
__________________
(١) سقط من : ب.
(٢) في ب : نفسه.
(٣) سقط من : ب.