فصل
اعلم أن قوله (يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) أنا إن حملناه على هذه الروايات كان معناه : يكفرون بإطلاق هذا الاسم على الله ـ تعالى ـ لا أنهم كفروا بالله تعالى وقال آخرون : بل كفروا بالله إما جحدا له ، وإما لإثباتهم الشركاء معه. قال القاضي : وهذا القول أليق بالظاهر ؛ لأن قوله تعالى (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) يقتضي أنهم كفروا بالله وهو المفهوم من الرحمن ، وليس المفهوم منه الاسم كما لو قال قائل : كفروا بمحمد وكذبوا به فكان المفهوم هو دون اسمه تعالى.
قوله : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) نزلت في نفر من مشركي مكة منهم : أبو جهل بن هشام وعبد الله بن أمية المخزومي جلسوا في فناء الكعبة فأتاهم رسول اللهصلىاللهعليهوسلم وعرض عليهم الإسلام ، فقال عبد الله بن أمية المخزومي : إن سرك أن نتبعك فسيّر لنا جبال مكة بالقرآن فأذهبها حتى تنفسح علينا فإنها أرض ضيقة لمزارعنا ، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا لنغرس الأشجار ونزرع ، فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حيث سخر له الجبال تسبح معه ، أو [سخر لنا الريح ، فنركبها إلى الشام والبلاد لميرتنا وحوائجنا ، ونرجع في يومنا ؛ فقد](١) سحر الريح لسليمان ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كما زعمت فلست على ربك بأهون من سليمان ، أو أحي لنا جدك قصي ، أو من شئت من موتانا نسأله عن أمرك ، أحق ما تقول أو باطل فقد كان عيسى يحيي الموتى ، ولست بأهون على الله منه ، فأنزل الله ـ عزوجل ـ (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) أي : شققت فجعلت أنهارا وعيونا (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى).
قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ)(٣١)
قوله (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ) جوابها محذوف ، أي : لكان هذا القرآن ، لأنه في غاية ما يكون من الصحة ، واكتفى بمعرفة السامعين من مراده ؛ كقول الشاعر : [الطويل]
٣١٨٠ ـ فأقسم لو شيء أتانا رسوله |
|
سواك ولكن لم نجد عنك مدفعا (٢) |
أراد : لرددناه ، وهذا معنى قول قتادة : قالوا : لو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم.
__________________
(١) سقط من ب.
(٢) البيت لامرىء القيس. ينظر : ديوانه ٢ / ٢٤ ، معاني الفراء ٢ / ٢٦٣ ، ٣ / ١٩٢ ، البحر ٥ / ٣٩٢ ، تأويل مشكل القرآن (١٦٦) ، ابن يعيش ٩ / ٧ ، الخزانة ٤ / ٢٢٧ ، الألوسي ١٣ / ١٥٤ ، اللسان (وحد) ، الصناعتين ص ١٨٢.