وثالثها : أن عبادة الله لا تمكن إلا بعد معرفته ولا سبيل إلى معرفته إلا بالدليل وهذا يدل على أن المرء مكلف بالنظر والاستدلال ، في معرفة الصانع وصفاته وما يجب ويجوز ويستحيل عليه.
ورابعها : أن عبادة الله واجبة ، وهي تبطل قول نفاة التكليف ويبطل القول بالجبر المحض.
وخامسها : قوله (وَلا أُشْرِكَ بِهِ) وهذا يدل على نفي الأضداد والأنداد بالكلية ويدخل فيه إبطال قول كل من أثبت معبودا سوى الله ـ تعالى ـ من الشمس والقمر والكواكب والأصنام والأوثان والأرواح ، وهو على ما يقوله المجوس أو النور والظلمة على ما تقوله الثنوية.
وسادسها : قوله (إليه أدعو) أي : كلما وجب عليه الإتيان بهذه العبادات يجب عليه الدعوة إلى [عبودية](١) الله ـ تعالى ـ وهو إشارة إلى الحشر والنشر والبعث والقيامة.
قوله : (وَلا أُشْرِكَ) قرأ نافع (٢) في رواية عنه برفع «ولا أشرك» وهي تحتمل القطع ، أي : وأنا لا أشرك. وقيل : هي حال.
وفيه نظر ؛ لأن المنفي ب «لا» كالمثبت في عدم مباشرة واو الحال.
قوله : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) الكاف في محل نصب ، أي : وكما يسرنا هؤلاء للفرح وهؤلاء لإنكار البعض كذلك (أَنْزَلْناهُ حُكْماً) و «حكما» حال من مفعول «أنزلناه».
وقيل : شبه إنزاله حكما عربيا بما أنزل على من تقدم من الأنبياء أي : كما أنزلنا الكتب على الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ بلسانهم كذلك أنزلنا إليك القرآن.
وقيل : كما أنزلنا إليك الكتاب يا محمد فأنكره الأحزاب كذلك أنزلنا الحكم والدين «عربيّا» نسب إلى العرب ، لأنه منزل بلغتهم فكذب به الأحزاب ، ولما كان القرآن مشتملا على جميع أنواع التكاليف وكان سببا للحكم جعل نفس الحكم مبالغة.
فصل
قالت المعتزلة (٣) : دلت الآية على حدوث القرآن من وجوه :
الأول : أنه ـ تعالى ـ وصفه بكونه منزلا وذلك لا يليق إلا بالمحدث.
والثاني : وصفه بكونه عربيا ، والعربي هو الذي حصل بوضع العرب واصطلاحهم وما كان كذلك كان محدثا.
والثالث : أن الآية دلت على أنه إنما كان حكما عربيا ؛ لأن الله جعله كذلك والموصوف بهذه الصفة محدث.
__________________
(١) في ب : عبادة.
(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٣٣ والبحر المحيط ٥ / ٣٨٧ والدر المصون ٤ / ٢٤٧.
(٣) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٤٩.