فصل
قال ابن الخطيب (١) : دلت الآية على أنه ـ تعالى ـ يغفر الذنوب من غير توبة في حق المؤمن ، لأنه قال (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) وعد بغفران الذنوب مطلقا من غير اشتراط التوبة ؛ فوجب أن يغفر بعض الذنوب مطلقا من غير التوبة ، وذلك البعض ليس هو الكفر لانعقاد الإجماع على أنه ـ تعالى ـ لا يغفر الكفر إلا بالتوبة عنه والدخول في الإيمان ؛ فوجب أن يكون البعض الذي يغفر من غير التوبة ما عدا الكفر من الذنوب.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن كلمة «من» صلة على ما قاله أبو عبيدة أو نقول : المراد منه تمييز خطاب المؤمن عن الكافر على ما قاله الزمخشريّ ، أو نقول : المراد تخصيص الغفران بالكبائر على ما قاله الأصم ، أو نقول : المراد منه الذنوب التي يذكرها الكافر عند إسلامه ، كما قاله القاضي.
فنقول هذه الوجوه بأسرها ضعيفة ، أمّا كونها صلة فمعناه الحكم على كلمة من كلام الله ـ عزوجل ـ بأنّها عبث والعاقل لا يجوز له المصير إليه من غير ضرورة.
وأما قول الواحدي : المراد من كلمة «من» ههنا الكل فهو عين ما قاله أبو عبيدة ؛ لأن حاصله أنّ قوله تعالى ـ جل ذكره ـ (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي : يغفر لكم ذنوبكم ، وهذا عين ما نقله عن أبي عبيدة ، وحكى عن سيبويه إنكاره.
وأما قوله : المراد منه إبدال السيئة بالحسنة ، فليس في اللغة أنّ كلمة «من» تفيد الإبدال.
وأما قول الزمخشري (٢) : المراد تمييز خطاب المؤمنين من خطاب الكافرين بمزيد التشريف فهو من باب الطاعات ، لأن هذا التبعيض إن حصل ، فلا حاجة إلى ذكر هذا الجواب وإن لم يحصل كان هذا الكلام فاسدا.
وأما قول الأصم ، فقد سبق بطلانه.
وأمّا قول القاضي (٣) : فجوابه أنّ الكافر إذا أسلم ؛ غفرت ذنوبه بأسرها ، لقوله ـ عليهالسلام ـ : «التّائب من الذنب كمن لا ذنب له» (٤).
وقال تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨] فثبت أنّ جميع ما ذكروه من التأويلات ضعيف ساقط ، بل المراد ما ذكرناه هو أنّه يغفر بعض ذنوبه من غير توبة ؛ بشرط أن يأتي بالإيمان ، فبأن تحصل هذه الحال للمؤمن أولى.
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٩ / ٧٤.
(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٤٣.
(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٩ / ٧٥.
(٤) آية : (٢).