إنّ النفس إذا فارقت الجسد فكأنه زال الغطاء ، وبقيت متجردة بذاتها عارية عن كل ما سواها وذلك هو البروز لله ـ تعالى ـ.
ثم حكى أن الضعفاء يقولون للرؤساء (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) أي : إنما اتبعناكم لهذا اليوم (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ) دافعون : (عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ).
و «تبعا» يجوز أن يكون جمع تابع ، كخادم وخدم ، وغائب وغيب ونافر ونفر ، وحارس وحرس ، وراصد ورصد.
ويجوز أن يكون مصدرا ، نحو : قوم عدل ، ففيه التأويلات المشهورة.
قوله (مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) في «من» و «من» [أربعة] أوجه :
أحدها : أنّ «من» الأولى للتبيين ، والثانية للتبعيض ، تقديره : مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله ، قاله الزمخشريّ.
قال أبو حيان (١) : هذا يقتضي التقديم في قوله : «من شيء» على قوله : (مِنْ عَذابِ اللهِ) ؛ لأنه جعل (مِنْ شَيْءٍ) هو المبين بقوله : (مِنْ عَذابِ اللهِ) و «من» التبيينية مقدم عليها ما تبينه ولا يتأخر.
قال شهاب الدّين (٢) : كلام الزمخشري صحيح من حيث المعنى ؛ فإن (مِنْ عَذابِ اللهِ) لو تأخر عن «شيء» كان صفة له ، ومبينا ، فلما تقدم انقلب إعرابه من الصفة إلى الحال ، وأما معناه وهو البيان فباق لم يتغير.
الثاني : أن يكونا للتبعيض معا ، بمعنى : هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله ؛ أي : بعض بعض عذاب الله ، قاله الزمخشري.
قال أبو حيان : وهذا يقتضي أن يكون بدلا ، فيكون بدل عام من خاص ، وهذا لا يقال ؛ فإن بعضية الشيء مطلقة ، فلا يكون لها بعض.
قال شهاب الدين : لا نزاع أنه يقال : بعض البعض ، وهي عبارة متداولة ، وذلك البعض المتبعض هو كل لأبعاضه بعض لكله ، وهذا كالجنس المتوسط ، هو نوع لما فوقه ، جنس لما تحته.
الثالث : أن «من» في «من شيء» مزيدة ، و «من» في (مِنْ عَذابِ) فيها وجهان :
أحدهما : أن تتعلق بمحذوف ؛ لأنها في الأصل صفة ل «شيء» فلما تقدمت نصبت على الحال.
والثاني : أنها تتعلق بنفس «مغنون» على أن يكون «من شيء» واقعا موقع المصدر ، أي : غناء ، ويوضح هذا ما قاله أبو البقاء ـ رحمهالله تعالى ـ قال : و «من» زائدة أي شيئا
__________________
(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٠٧.
(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٦٠.