ثم قال تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) [إبراهيم : ٣٢] نظيره (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ).
واعلم أنّ الانتفاع بما ينبت من الأرض إنّما يكمل بوجود الفلك ؛ لأنّ الله ـ تعالى ـ خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع آخر من النعم حتى إن نعمة هذا الطرف إذا نقلت إلى الطرف الآخر من الأرض ، وبالعكس ، كثرت الأرباح في التجارات وهذا الفعل لا يمكن إلا بسفن البرّ ، وهي الجمال ، أو بسفن البحر ، وهي الفلك.
فإن قيل : ما معنى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ) مع أنّ تركيب السفينة من أعمال العباد؟.
فالجواب : أنّ فعل العبد خلق الله ـ تعالى ـ عند أهل السّنّة ، فلا سؤال.
وأمّا عند المعتزلة : فلأنه ـ تعالى ـ خلق الأشجار التي تركب منها السّفن وخلق الحديد ، وسائر الآلات ، وعرف العباد صنعة التركيب ، وخلق الرياح ، وخلق الحركات القوية فيها ، ووسّع الأنهار وعمقها تعميقا لجري السفن فيها ، ولو لا ذلك لما حصل الانتفاع بالسفن.
وأضاف التسخير إلى أمره ؛ لأنّ الملك العظيم لا يوصف بأنّه فعل ، وإنّما يقال : أمر ، قال تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠] وسخر الفلك مجازا ؛ لأنها جمادات ، ولما كانت تجري على وجه الماء ، وعلى وفق إرادة الملاح صارت كأنها حيوان مسخّر.
ثم قال تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) ، لأنّ ماء البحر لا ينتفع به في الزراعات ، فأنعم الله ـ تعالى ـ على الخلق بتفجير الأنهار ، والعيون حتى انبعث الماء منها إلى موضع الزرع والنبات ، وأيضا : فماء البحر لا يصلح للشرب ، وإنّما يصلح له مياه الأنهار.
ثم قال ـ عزوجل ـ (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) والانتفاع بهما عظيم قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) [نوح : ١٦] (وَقَمَراً مُنِيراً) [الفرقان : ٦١] (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [يونس : ٥] ، وتأثيرهما في إزالة الظلمة ، وإصلاح النبات والحيوان ، فالشمس سلطان النهار ، والقمر سلطان الليل ، فلو لا الشمس لما حصلت الفصول الأربعة ، ولولاها لاختلت مصالح العالم بالكليّة.
ثم قال (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) ومنافعهما مذكورة في القرآن ، كقوله (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) [النبأ : ١٠ ، ١١] ، وقوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [القصص : ٧٣].
قال المتكلمون : تسخير الليل ، والنهار مجاز ؛ لأنهما عرض ، والأعراض لا تسخّر.