وروي البيت أيضا بالرّفع ، والنّصب على ما تقدّم ، والأمر فيه ظاهر.
فصل
روى الحسن قال : سئل النبيّ صلىاللهعليهوسلم عن قوله (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «صبر لا شكوى فيه ، فمن بثّ لم يصبر» ، ويدلّ على ذلك قوله : «إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله» (١) وقال مجاهد (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) ، أي : من غير جزع (٢). وقال الثوريّ : «من الصّبر ألّا تحدّث بوجعك ، ولا بمصيبتك» (٣).
وقال ابن الخطيب (٤) : «وههنا بحث ، وهو أنّ الصّبر على قضاء الله واجب ، وأما الصّبر على ظلم الظّالم ، فغير واجب ، بل الواجب إزالته لا سيّما في الضّرر العائد إلى الغير ، وههنا أنّ إخوة يوسف قد ظهر كذبهم ، وخيانتهم ، فلم صبر يعقوب على ذلك؟ ولم لم يبالغ في التّفتيش ، ولا البحث عنه ، ولا السّعي في تخليص يوسف من البليّة ، والشّدّة إن كان حيّا ، وفي إقامة القصاص إن صحّ أنهم قتلوه فثبت أنّ الصّبر في هذا المقام مذموم».
ويقوّي هذا السّؤال أنّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان عالما بأنه حي ؛ لأنّه قال له : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) [يوسف : ٧]. الظّاهر أنه إنّما قال هذا الكلام من الوحي ، وإذا كان عالما بأنّه حيّ سليم ؛ فكان من الواجب أن يسعى في طلبه.
وأيضا : فإنّ يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان رجلا عظيم القدر في نفسه ، وكان من بيت عظيم شريف ، وأهل العالم كانوا يعرفونه ، ويعتقدون تعظيمه ، فلو بالغ في البحث ، والطلب لظهر ذلك ، واشتهر ، ولزال وجه التّلبيس ، فما السّبب في أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع شدّة رغبته في حضور يوسف ، ونهاية حبّه له لم يطلبه مع أنّ طلبه كان من الواجبات ؛ فثبت أنّ هذا الصّبر مذموم عقلا وشرعا.
فالجواب أن نقول : إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ منعه من الطّلب تشديدا للمحنة عليه ، وتغليظا للأمر عليه ، وأيضا : لعلّه عرف بقرائن الأحوال أنّ أولاده أقوياء ، وأنّهم لا يمكنونه من الطّلب ، والفحص ، وأنّه لو بالغ في البحث فربما أقدموا على إيذائه ، وأيضا :
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٦٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٧) وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا في «كتاب الصبر» وابن المنذر وابن أبي حاتم عن حبان بن أبي جبلة قال : سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن قوله : فصبر جميل ..... فذكره.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٦٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٧) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٦٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٧) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر.
(٤) ينظر : الفخر الرازي ١٨ / ٨٣.