لعلّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ علم أنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ سيصون يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن البلاء والمحنة ، وأن أمره سيظهر بالآخرة ولم يرد هتك ستر أولاده ، وإلقائهم في ألسنة النّاس وذلك لأنّ أحد الولدين إذا ظلم أخاه ، وقع أبوه في العذاب الشّديد ؛ لأنه إذا لم ينتقم ؛ يحترق قلبه على الولد المظلوم ، وإن انتقم ، احترق قلبه على الولد المنتقم منه ، فلمّا وقع يعقوب في هذه البلية رأى أنّ الأصوب الصّبر ، والسّكون ، وتفويض الأمر بالكليّة إلى الله ـ تعالى ـ.
فصل
قال ابن أبي رفاعة «ينبغي لأهل الرّأي أن يتّهموا رأيهم عند ظنّ يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهو نبيّ حين قال له بنوه : (إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) [يوسف : ١٧]. فقال : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) [يوسف : ١٨] فأصاب هنا ، ثمّ لما قالوا له : (إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) [يوسف : ٨١] ؛ قال : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ) [يوسف : ٨٣] فلم يصب».
فصل
قوله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) يدل على أنّ الصّبر قسمان :
أحدهما : جميل ، والآخر : غير جميل ، فالصّبر الجميل هو : أن يعرف أنّ منزّل ذلك البلاء هو الله ـ تعالى ـ ثمّ يعلم أنّه ـ سبحانه ـ مالك الملك ، ولا اعتراض على المالك في أن يتصرّف في ملكه ، فيصير استغراق قلبه في هذا المقام مانعا من الشّكاية. وأيضا : يعلم أن منزّل هذا البلاء حليم لا يجهل ، عالم لا يغفل ، وإذا كان كذلك ، فكان كلّ ما صدر عنه حكمة وصوابا ، فعند ذلك يسكت ولا يعترض.
وأمّا الصّبر غير الجميل : فهو الصّبر لسائر الأغراض ، لا لأجل الرّضا بقضاء الله ـ سبحانه وتعالى ـ والضّابط في جميع الأقوال والأفعال والاعتقادات : أنه كلما كان لطلب عبودية الله ـ تعالى ـ كان حسنا وإلا فلا.
ثم قال : (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أي : أستعين بالله على الصّبر على ما تكذبون.
قوله تعالى : (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢١)
قوله تعالى : (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) [الآية : ١٩] واعلم أنه ـ تعالى ـ بيّن