ولذلك قال في صفة شجرة جهنّم : (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) [الصافات : ٦٥] وذلك لما تقرّر في الطبائع ، أنّ أقبح الأشياء ، هو الشيطان ، فكذا هاهنا ، تقرّر في الطبائع أنّ أحسن الأشياء ، هو الملك ، فلما أرادت النسوة المبالغة في وصف يوسف في الحسن ، لا جرم شبّهنه بالملك ، وقلن : «إن هذا إلّا ملك كريم» على الله من الملائكة.
والوجه الثاني : قال ابن الخطيب (١) : وهو الأقرب عندي ، أن المشهور عند الجمهور ، أنّ الملائكة مطهّرون عن بواعث الشهوة ، وحوادث الغضب ، ونوازع الوهم ، والخيال ، فطعامهم توحيد الله ، وشرابهم الثناء على الله ، ثم إنّ النسوة لما رأين يوسف ، لم يلتفت إليهن ، ورأين عليه هيبة النّبوة ، وهيبة الرسالة ، وسيما الطّهارة ، قلن : ما رأينا فيه أثرا من الشّهوة ، ولا شيئا من البشرية ، ولا صفة من الإنسانية ، ودخل في الملائكة ، فإن قالوا : فإن كان المراد ما ذكرتم ، فكيف يتمهد عذر المرأة عند النسوة؟ فالجواب قد سبق.
فصل فيمن احتج بالآية على أن الملك أفضل من البشر
احتج القائلون بأن الملك أفضل من البشر بهذه الآية فقالوا : لا شك أنهن إنما ذكرن هذا الكلام في معرض تعظيم يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ، فوجب أن يكون إخراجه من البشرية ، وإدخاله في الملكيّة ، سببا لتعظيم شأنه ، وإعلاء مرتبته ، وإنما يكون كذلك ، إذا كان الملك أعلى حالا من البشر.
ثم نقول : لا يخلو إما أن يكون المقصود بيان كماله في الحسن الظاهر ، أو بيان كمال حسن الباطن الذي هو الخلق الباطن (٢) ، والأول باطل لوجهين :
الأول : أنهن وصفنه بكونه كريما ؛ بحسب الأخلاق الباطنة ، لا بحسب الخلقة الظاهرة.
والثاني : أنا نعلم بالضرورة أنّ وجه الإنسان لا يشبه وجوه الملائكة ألبتة ، وأما كونه بعيدا عن الشهوة ، والغضب ، معرضا عن اللّذات الجسمانية ، متوجّها إلى عبودية الله ، مستغرق القلب والرّوح ، فهو مشترك فيه بين الإنسان الكامل ، وبين الملائكة.
إذا ثبت هذا فنقول : تشبيه الإنسان بالملك ، في الأمر الذي حصلت المشابهة فيه على سبيل الحقيقة ، أولى من تشبيهه بالملك فيما لم تحصل فيه المشابهة ألبتة ؛ فثبت أن تشبيه يوسف بالملك في هذه الآية ، إنّما وقع في الخلق الباطن ، لا في الصّورة الظاهرة ، وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون الملك أعلى (٣) حالا من الإنسان في هذه الفضائل.
قوله : «فذلكنّ» مبتدأ ، والموصول خبره ، أشارت إليه إشارة البعيد ، وإن كان
__________________
(١) ينظر : الفخر الرازي ١٨ / ١٠٣.
(٢) سقط من : ب.
(٣) في ب : أحسن.