الثالث : أن النسوة اجتمعن عليه ، وكلّ واحدة منهن كانت ترغبه ، وتخوفه بطريق غير طريق الأخرى ، ومكر النساء في هذا الباب شديد.
الرابع : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان خائفا من شرّها ، ومن إقدامها على قتله ، وإهلاكه.
فاجتمع في حقّه جميع جهات الترغيب ؛ على موافقتها ، وجميع جهات التّخويف ؛ على مخالفتها ، فخاف صلىاللهعليهوسلم أن تؤثر هذه الأسباب الكثيرة فيه ، والقوة البشريّة لا تفي بحصول هذه القضية القوية ؛ فعند ذلك التجأ إلى الله ـ تعالى ـ وقال : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) وقدّم محبته ـ السّجن وإن كانت معصية ؛ لأنها أخفّ ، وذلك أنه متى لزم ارتكاب أحد قسمين ، كلّ واحد منهما يضرّ ، فارتكاب أقلّ الضررين أولى ؛ والأولى بالمرء أن يسأل الله العافية.
فإن قيل : كيف قال : (يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) وإنما دعته زليخا خاصّة؟.
فالجواب : أضافه إليهنّ ؛ خروجا من التصريح إلى التّعريض ، وأراد الجنس ، وقيل إنهن جميعا دعونه إلى أنفسهنّ ، وقيل أراد ترغيبهنّ له في مطاوعتها (١).
فصل
(وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ) قرأ العامة بتخفيف الباء ، من : صبا يصبو ، أي : رقّ شوقه ، والصّبوة : الميل إلى الهوى ، ومنه «الصّبا» ؛ لأن النّفوس تصبو إليها ، أي : تميل إلى نسيمها وروحها ، يقال : صبا يصبو صباء وصبوّا ، وصبي يصبي صبا ، والصّبا بالكسرة : اللهو ، واللّعب.
وقرأت فرقة «أصبّ» (٢) بتشديدها من صببت صبابة ، فأنا صبّ ، والصّبابة : رقّة الشوق ، وإفراطه ؛ كأنه لفرط حبّه ينصبّ فيما يهواه كما ينصبّ الماء.
فصل
احتجّوا بهذه الآية على أنّ الإنسان لا ينصرف عن المعصية ، إلّا إذا صرفه الله عنها.
قالوا : لأن هذه الآية تدلّ على أنه إن لم يصرفه عن ذلك القبيح ، وقع فيه.
وتقريره : أنّ الداعي إلى الفعل ، والترك ، إن استويا ، امتنع الفعل ؛ لأن الفعل أحد رجحان الطرفين ، ومرجوحيّة الطرف الآخر ، وحصولهما حال استواء الطرفين جمع بين النقيضين ؛ وهو محال ، فإن حصل الرجحان في أحد الطرفين ، فذلك الرجحان ليس من
__________________
(١) سقط من : ب.
(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٦٧ والبحر المحيط ٥ / ٣٠٦ والدر المصون ٤ / ١٨١.