العبد ، وإلا لذهبت المراتب إلى غير نهاية ، بل نقول : من الله ـ تعالى ـ ، فالصّرف عبارة عن جعله مرجوحا ؛ لأنه متى صار مرجوحا ، صار ممتنع الوقوع ؛ لأن الوقوع رجحان ، فلو وقع في حال المرجوحية ، لحصل الرجحان حال حصول المرجوحيّة ، وهو مقتضى حصول الجمع بين النقيضين ؛ وهو محال.
فثبت بهذا أنّ انصراف العبد عن القبيح ليس إلا من الله.
وأيضا : فإنّه كان قد حصل في «يوسف» جميع الأسباب المرغّبة في المعصية ، وهو الانتفاع بالمال والجاه ، والتّمتّع بالمطعوم ، والمنكوح ، ولم يحصل في الإعراض عنها جميع الأسباب المنفّرة ، وإذا كان كذلك ، فقد قويت دواعي الفعل ، وضعفت الدّواعي المعارضة لدواعي المعصية ؛ إذ لو لم يحصل هذا التعارض ، لحصل الترجيح للوقوع في المعصية خاليا عما يعارضه ؛ وذلك يوجب وقوع الفعل ، وهو المراد من قوله (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) ، وفيه دليل على أنّ المؤمن إذا ارتكب ذنبا ، يرتكبه عن جهالة.
قوله (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ) ، أجاب له ربّه ، (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ) ؛ وذلك يدلّ على أنّ الصارف عنه ، هو الله ـ تعالى ـ (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لدعائه ، (الْعَلِيمُ) بمكرهن.
قوله تعالى : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢))
قوله (ثُمَّ بَدا لَهُمْ) ، في [فاعل «بدا»](١) أربعة أوجه (٢) :
__________________
(١) في ب : الفاعل.
(٢) في ب : أجوبة.