وقيل : ثمّ وسائط محذوفة.
والذي يظهر أن قوله «خلق» عبارة عن إيجاده ، وتربيته إلى أن يبلغ حدّ هاتين الصفتين.
و«خصيم» : فعيل مثال مبالغة من خصم بمعنى اختصم ، ويجوز أن يكون بمعنى مخاصم ، كالخليط والجليس ، ومعنى «خصيم» جدول بالباطل.
فصل
اعلم أنّه ـ سبحانه وتعالى ـ إنّما يخلق الإنسان من نطفة بواسطة تغيرات كثيرة مذكورة في قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢] الآيات إلّا أنّه ـ تعالى ـ اختصرها هاهنا استغناء بذكرها هناك.
قال الواحديّ رحمهالله : الخصيم بمعنى المخاصم. وقال أهل اللغة : خصيمك الذي يخاصمك ، وفعيل بمعنى مفاعل معروف ، كالنّسيب والعشير.
ووجه الاستدلال بكونه خصيما على وجود الإله المدبّر الحكيم : أنّ [النفوس](١) الإنسانيّة في أول الفطرة أقل فهما وذكاء من نفوس سائر الحيوانات ؛ ألا ترى أنّ ولد الدجاجة حالما يخرج من قشر البيضة يميّز الصديق والعدوّ ، ويهرب من الهرّة ، ويلتجىء إلى الأمّ ويميز الغذاء الموافق ، والغذاء الذي لم يوافق.
وأمّا ولد الإنسان فإنّه حال انفصاله من بطن الأمّ لا يميز ألبتّة بين العدوّ والصديق ولا بين الضارّ والنافع ، فظهر أنّ الإنسان في أول الحدوث أنقص حالا ، وأقلّ فطنة من سائر الحيوانات.
ثم إنّ الإنسان بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه ، ويصير بحيث يقوى على مساحة السماوات والأرض ، ويقوى على معرفة الله ـ عزوجل ـ وصفاته ، وعلى معرفة أصناف المخلوقات من الأرواح والأجسام والفلكيات والعنصريات ، ويقوى على إيراد الشبهات القوية في دين الله ـ تعالى ـ والخصومات الشديدة في كل المطالب ، فانتقال نفس الإنسان من تلك البلادة المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لا بدّ وأن يكون بتدبير مدبر مختار حكيم بنقل الأرواح من نقصانها إلى كمالاتها ، ومن جهالاتها إلى معارفها بحسب الحكمة والاختيار فهذا هو المراد من قوله تعالى : (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ).
وفي معنى كونه خصيما مبينا وجهان :
الأول : أنه يجادل عن نفسه منازعا للخصوم بعد أن كان نطفة قذرة وجمادا ، لا حسّ فيه ولا حركة ، والمقصود منه أنّ الانتقال من تلك الحالة الخسيسة إلى هذه الحالة العالية الشريفة لا يحصل إلا بتدبير مدبر حكيم.
__________________
(١) في أ: النفس.