ولذلك قضى النبي صلىاللهعليهوسلم بأنّ اللبن محرّم حين أنكرته عائشة ـ رضي الله عنها ـ في حديث : «أفلح أخي أبي القعيس فللمرأة السّقي وللرّجل اللّقاح».
قوله : (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ) يجوز فيه أوجه :
أحدها : أنّه متعلق بالسّقي على أنّها لابتداء الغاية ، فإن جعلنا ما قبلها كذلك ، تعين أن يكون مجرورها بدلا من مجرور «من» الأولى ، لئلا يتعلّق عاملان متّحدان لفظا ومعنى [بمعمول](١) واحد ، وهو ممتنع إلا في بدل الاشتمال ؛ لأنّ المكان مشتمل على ما حلّ فيه ، وإن جعلتها للتّبعيض هان الأمر.
الثاني : أنّها في محل نصب على الحال من «لبنا» ، إذ لو تأخّرت ، لكانت مع مجرورها نعتا. قال الزمخشريّ : «وإنّما قدّم ؛ لأنه موضع العبرة ، فهو قمن بالتّقدم».
الثالث : أنّها مع مجرورها حال من الضمير الموصول قبلها.
والفرث : فضالة ما يبقى من العلف في الكرش ، وكثيف ما يبقى من الأكل في الأمعاء ، ويقال : فرث كبده ، أي : فتّتها ، وأفرث فلان فلانا ؛ أوقعه في بليّة يجرى مجرى الفرث.
روى الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال : «إذا استقرّ العلف في الكرش ، صار أسفله فرثا ، وأعلاه دما ، وأوسطه لبنا ، فيجري الدّم في العروق واللبن في الضّرع ، ويبقى الفرث كما هو» (٢).
قوله : «لبنا» هو المفعول الثاني للسّقي.
وقرىء (٣) : «سيّغا» بتشديد الياء ، بزنة «سيّد» وتصريفه كتصريفه. وخفف عيسى بن عمر ، نحو «ميت» ، و«هين» ، ولا يجوز أن يكون فعلا ، إذ كان يجب أن يكون سوغا كقول.
ومعنى : (سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) ، أي هنيئا يجري بسهولة في الحلق ، وقيل : إنّه لم [يشرق](٤) أحد باللّبن قطّ.
فصل
قال ابن الخطيب (٥) : اللّبن والدّم لا يتولدان ألبتّة في الكرش ، والدّليل عليه الحسّ ، فإنّ هذه الحيوانات تذبح ذبحا متواليا ، وما رأى أحد في كرشها لا دما ، ولا لبنا ، ولو كان تولد الدّم ، واللّبن في الكرش ؛ لوجب أن يشاهد ذلك في بعض الأحوال ، والشيء الذي دلّت المشاهدة على فساده ؛ لم يجز المصير إليه ، بل الحق أنّ الحيوان إذا
__________________
(١) في ب : بعامل.
(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ٥٢ ـ ٥٣).
(٣) ينظر : المحتسب ٢ / ١١ ، والشواذ ٧٣ ، والمحرر ٨ / ٤٥٧ ، والبحر ٥ / ٤٩٤ ، والدر المصون ٤ / ٣٤٣.
(٤) في أ: يغص.
(٥) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ٥٣.