تناول الغذاء ، ووصل ذلك العلف إلى معدته إن كان إنسانا ، وإلى كرشه إن كان من الأنعام وغيرها ، فإذا طبخ ، وحصل الهضم الأول فيه ، فما كان منه صافيا انجذب إلى الكبد ، وما كان كثيفا ، نزل إلى الأمعاء ، ثمّ ذلك الذي يحصل منه في الكبد ينطبخ فيها ، ويصير دما ، وذلك هو الهضم الثاني ، ويكون ذلك الدم مخلوطا بالصّفراء ، والسّوداء ، وزيادة المادة المائية ، أمّا الصفراء ، فتذهب إلى المرارة ، والسّوداء إلى الطحال ، والماء إلى الكلية ، ومنها إلى المثانة ، وأما ذلك الدم فإنه يدخل في الأوردة ، وهي العروق النابتة من الكبد ، وهناك يحصل الهضم الثالث ، وبين الكبد ، وبين الضّرع عروق كثيرة ، فينصبّ الدّم من تلك العروق إلى الضّرع والضرع لحم غدديّ رخو أبيض ، فيقلب الله ـ تعالى ـ الدم عند إصبابه إلى ذلك اللّحم الغددي الرّخو الأبيض ، من صورة الدّم إلى صورة اللّبن فهذا هو القول الصحيح في كيفية تولد اللبن.
فإن قيل : هذه المعاني حاصلة في الحيوان الذّكر ، فلم لم يحصل منه اللّبن؟ قلنا : الحكمة الإلهيّة قد اقتضت تدبير كلّ شيء على الوجه اللائق به الموافق لمصلحته ، فمزاج الذّكر من كلّ حيوان يجب أن يكون حارا يابسا ، ومزاج الأنثى يجب أن يكون باردا رطبا ، والحكمة فيه أنّ الولد إنّما يتكوّن في داخل بدن الأنثى ؛ فوجب أن يكون بدن الأنثى مختصا بمزيد الرطوبات لوجهين :
الأول : أنّ الولد إنما يتولّد من الرطوبات ، فوجب أن يحصل في بدن الأنثى رطوبات كثيرة لتصير مادة لتولد الولد.
والثاني : أنّ الولد إذا كبر ، وجب أن يكون بدن الأم قابلا للتّمدد ؛ حتى يتسع لذلك الولد ، فإذا كانت الرّطوبات غالبة على بدن الأم ، كان بدنها قابلا للتمدد ، فيتسع للولد ؛ فثبت بما ذكرنا أنّه ـ تعالى ـ خصّ بدن الأنثى من كل حيوان بمزيد الرّطوبات لهذه الحكمة ، ثم إنّ تلك الرطوبات التي كانت تصير مادة ، لازدياد بدن الجنين حين كان في رحم الأم ، فعند انفصال الجنين ، تنصب إلى الثّدي ، والضرع ، ليصير مادّة لغذاء ذلك الطفل الصّغير ، فظهر أنّ السبب الذي لأجله يتولّد اللّبن من الدّم في حق الأنثى غير حاصل في حق الذّكر ، فظهر الفرق.
وقد تقدّم ما نقل عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ في أنّ الفرث يكون في أسفل الكرش ، والدم يكون في أعلاه ، واللبن يكون في الوسط ، وبيّنّا أنّ هذا القول على خلاف الحس والتجربة.
واعلم أنّ حدوث اللّبن في الثدي ، واتّصافه بالصّفات الموافقة لتغذية الطفل مشتمل على حكم عجيبة ، يشهد صريح العقل بأنّها لا تحصل إلّا بتدبير الفاعل الحكيم والمدبر الرحيم ، وبيانه من وجوه :
الأول : أنه ـ تعالى ـ خلق في أسفل المعدة منفذا يخرج منه ثقل الغذاء فإذا تناول