والثاني هو المراد بقوله ـ عزوجل ـ (وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) وهو خلايا النحل ، واختلفوا فيه.
فقال بعضهم : لا يبعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول مخصوصة ، بحيث يمكن أن يتوجّه عليها أمر الله ونهيه.
وقال آخرون : المراد منه أنه ـ تعالى ـ خلق غرائز وطبائع توجب هذه الأحوال ، وسيأتي الكلام على ذلك في قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ) [النمل : ١٣] إن شاء الله ـ تعالى ـ.
ثم قال ـ تعالى ـ : (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) «من» هنا للتبعيض ؛ لأنها لا تأكل من كلّ الثمرات ؛ فهو كقوله : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النحل : ٢٣] أو لابتداء الغاية.
قال ابن الخطيب : رأيت في كتب الطبّ أن الله ـ تعالى ـ دبّر هذا العالم على وجه يحدث في الهواء طلّ لطيف في الليل ، ويقع ذلك الطّلّ على أوراق الأشجار ، وقد تكون الأجزاء الطليّة لطيفة صغيرة متفرّقة على الأوراق والأزهار ، وقد تكون كثيرة بحيث يجمع منها أجزاء متساوية محسوسة كالترنجبين ، فإنه طلّ ينزل من الهواء يجتمع على أطراف أوراق الشّجر في بعض البلدان ، وذلك محسوس ، فالقسم الأول : هو الذي ألهم الله ـ تعالى ـ هذا النّحل ، حتى أنّها تلتقط تلك الذرات من الأزهار والأوراق والأشجار بأفواهها ، وتأكلها وتتغذى بها ، فإذا شبعت ، التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئا من تلك الأجزاء ، ثم تذهب بها إلى بيوتها وتضعها هناك كأنها تدّخر لنفسها غذاءها ، فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير ، فذلك هو العسل.
ومنهم من يقول : إنّ النّحل تأكل من الأزهار الطّيبة والأوراق العطرة أشياء ، ثم إنه ـ تعالى ـ يقلّب تلك الأجسام في داخل أبدانها عسلا ، ثمّ إنها تقيء مرّة أخرى ؛ فذلك هو العسل.
والأول أقرب ، ولا شكّ أنه طلّ يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار ، فكذلك ههنا ، ونحن نشاهد أن النّحل إنّما يتغذّى بالعسل ؛ ولذلك إذا أخرجوا العسل من بيوت النّحل تركوا لها بقية من العسل لأجل أن يتغذى بها ، فعلمنا أنها تتغذّى بالعسل ، وأنّها إنما تقع على الأشجار والأزهار ؛ ليتغذى بتلك الأجزاء الطلّية العسليّة الواقعة من الهواء ، وإذا كان ذلك ، فقوله : (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أن «من» هنا لابتداء الغاية لا للتبعيض.
قوله : (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ) أي : إذا أكلت من كل الثمرات ، فاسلكي سبل ربك الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل ، أو اسلكي في طلب تلك الثّمرات سبل ربك.
قوله تعالى : «ذللا» جمع ذلول ، ويجوز أن يكون حالا من السبل ، أي : ذلّلها لها