ثم إنّ تلك الماهيّات على قسمين :
أحدهما : ما يكون حضوره موجبا تاما في جرم الذّهن ، بإسناد بعضها إلى بعض بالنّفي أو الإثبات ، مثل أنه إذا حضر في الذّهن أن الواحد ما هو؟ وأن نصف الاثنين ما هو؟ كان حضور هذين التّصوّرين في الذّهن علّة تامة في جرم الذّهن ؛ بأنّ الواحد محكوم عليه بأنّه نصف الاثنين ، وهذا القسم هو العلوم البديهيّة.
والقسم الثاني : ما لا يكون كذلك ، وهو العلوم النّظريّة ؛ مثل أنّه إذا حضر في الذّهن بأنّ الجسم ما هو؟ والمحدث ما هو؟ فإن مجرّد هذين التصوّرين في الذّهن لا يكفي في جزم الذهن بأنّ الجسم محدث ، بل لا بدّ فيه من [دليل](١) منفصل وعلوم سابقة.
والحاصل أن العلوم الكسبيّة إنما يمكن اكتسابها بواسطة العلوم البديهيّة ، وحدوث العلوم البديهيّة إنما تكون عند حدوث تصوّر موضوعاتها ، وتصوّر محمولاتها ، وحدوث التّصورات إنّما كان بسبب إعانة هذه الحواس على إحداثها ؛ فظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النّفوس والعقول هو أنّه ـ تعالى ـ أعطى هذه الحواس.
فلهذا قال ـ تعالى ـ : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) ليصير حصول هذه الحواس سببا لانتقال نفوسكم من الجهل إلى العلم بالطّريق المذكور.
وقال المفسرون : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ) لتسمعوا مواعظ الله تعالى ، «والأبصار» لتبصروا دلائل [آلاء](٢) الله ، «والأفئدة» لتعقلوا عظمة الله.
و«الأفئدة» جمع فؤاد ؛ نحو : أغربة وغراب ، قال الزجاج : ولم يجمع «فؤاد» على أكثر العدد ، وما قيل : «فئدان» كما قيل : «غراب وغربان».
ولعلّ الفؤاد إنّما جمع على جمع القلّة ؛ تنبيها على أنّ السّمع والبصر كثيران ، وأن الفؤاد قليل ؛ لأن الفؤاد إنّما خلق للمعارف الحقيقيّة ، والعلوم اليقينيّة ، وأكثر الخلق ليسوا كذلك ، بل يكونوا مشغولين بالأفعال البهيميّة والصّفات السبعية ، فكأن فؤادهم ليس بفؤاد ؛ فلهذا جمع جمع القلّة قاله ابن الخطيب.
وقال الزمخشري ـ رحمهالله تعالى ـ : إنّه من الجموع التي استعملت للقلّة والكثرة ، ولم يسمع فيها غير القلّة ، نحو : «شسوع» ، فإنّها للكثرة ، وتستعمل في القلّة ، ولم يسمع غير شسوع. كذا قال وفيه نظر فقد سمع فيهم «أشساع» فكان ينبغي أن يقال : غلب «شسوع».
فإن قيل : قوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) ، عطف على قوله :
__________________
(١) في ب : ضمير.
(٢) زيادة من : ب.