الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(١١١)
قوله ـ تعالى ـ : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) الآية لما قال ـ تعالى ـ : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، أرشد إلى العمل الذي به يخلّص أعماله من الوساوس ، فقال ـ جل ذكره ـ : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) أي : فإذا أردت ، فأضمر الإرادة.
قال الزمخشري : «لأنّ الفعل يوجد عند القصد والإرادة من غير فاصل ، وعلى حسبه ، فكان منه بسبب قويّ وملابسة ظاهرة».
وقال ابن عطيّة (١) : «فإذا» وصلة بين الكلامين ، والعرب تستعملها في هذا ، وتقدير الآية : فإذا أخذت في قراءة القرآن ، فاستعذ».
وهذا مذهب الجمهور من القرّاء والعلماء ، وقد أخذ بظاهر الآية ـ فاستعاذ بعد أن قرأ ـ من الصحابة ـ أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ ، ومن الأئمة : مالك وابن سيرين وداود ، ومن القرّاء حمزة ـ رضي الله عنهم ؛ قالوا : لأنّ الفاء في قوله : (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) للتعقيب ، والفائدة فيه : أنه إذا قرأ القرآن يستحقّ به ثوابا عظيما ، فإذا لم يأت بالاستعاذة ، وقعت الوسوسة في قلبه ، وذلك الوسواس يحبط ثواب القراءة ، فإذا استعاذ بعد القراءة ، اندفعت تلك الوساوس ، وبقي الثّواب مصونا عن الانحطاط.
وذهب الأكثرون : إلى أنّ الاستعاذة مقدمة على القراءة ، والمعنى : إذا أردت أن تقرأ القرآن ، فاستعذ ؛ كقوله : إذا أكلت ، فقل : بسم الله ، وإذا سافرت ، فتأهّب ، وقوله ـ تعالى ـ : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦] ، وأيضا : قد ثبت أن الشّيطان ألقى الوسوسة في أثناء قراءة الرّسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ؛ بدليل قوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) [الحج : ٥٢] ، ومن الظاهر أنه ـ تعالى ـ إنما أمر الرّسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بالاستعاذة عند القراءة ؛ لدفع تلك الوساوس ، وهذا المقصود إنّما يحصل عند تقديم الاستعاذة.
وذهب عطاء إلى أنّ الاستعاذة واجبة عند قراءة القرآن ، كانت في الصّلاة أو غيرها.
ولا خلاف بين العلماء في أن التّعوذ قبل القراءة في الصّلاة أوكد.
واعلم أنّ هذا الخطاب للرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ، والمراد منه الكلّ ؛ لأن الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذا كان محتاجا للاستعاذة عند القراءة ، فغيره أولى ، والمراد بالشيطان في هذه الآية : قيل : إبليس ، وقيل : الجنس ؛ لأنّ جميع المردة لهم حظّ في الوسوسة.
__________________
(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٤٢٠.