أذاهم ، أي : ولا تقصّر في تبليغ الرسالة ، والدعاء إلى الحقّ ، والآية نسختها آية القتال.
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ، أي : إنّك يا محمد مكلّف بالدعوة إلى الله ، وأما حصول الهداية فلا يتعلق بك ، فهو أعلم بالضّالين وأعلم بالمهتدين.
قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا) العامة على «المفاعلة» وهي بمعنى : «فعل» ؛ كسافر ، وابن سيرين (١) : «عقّبتم» بالتشديد بمعنى : قفّيتم [بالانتصار فقفّوا](٢) بمثل ما فعل بكم.
وقيل : تتبّعتم ، والباء معدّية ، وفي قراءة ابن سيرين إمّا للسببية وإما مزيدة.
فصل
قال الواحدي رحمهالله : هذه الآية فيها ثلاثة أقوال :
أحدها : وهو قول ابن عبّاس في رواية عطاء وأبيّ بن كعب والشعبي ـ رضي الله عنهم ـ : أن النبي صلىاللهعليهوسلم لمّا رأى حمزة وقد مثّلوا به ، قال : «والله لأمثّلنّ بسبعين منهم مكانك» فنزل جبريل ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بخواتيم سورة النحل ، فكفّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأمسك عما أراد (٣) ؛ وعلى هذا قالوا : سورة النحل مكيّة إلا هذه الثلاث آيات.
والقول الثاني : أن هذا كان قبل الأمر بالسّيف والجهاد ، حين كان المسلمون لا يبدءون بالقتال ، ولا يقاتلون إلا من قاتلهم ، ويدلّ عليه قوله ـ تعالى ـ : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) [البقرة : ١٩٠] وفي هذه الآية أمروا بأن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا ، فلمّا أعزّ الله الإسلام وأهله ، نزلت «براءة» وأمروا بالجهاد ، ونسخت هذه الآية ، قاله ابن عبّاس والضحاك.
والقول الثالث : أن المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم ، وهذا قول مجاهد ، والنخعي ، وابن سيرين.
وقال ابن الخطيب : وحمل هذه الآية على قصّة لا تعلق لها بما قبلها ، يوجب حصول سوء الترتيب في كلام الله ـ تعالى ـ وهو في غاية البعد ، بل الأصوب عندي أن يقال : إنه ـ تعالى ـ أمر محمّدا صلىاللهعليهوسلم بدعوة الخلق إلى الدين الحقّ بأحد الطرق الثلاثة ، وهي الحكمة ، والموعظة ، والجدال بالطريق الأحسن ، ثم إن تلك الدعوة تتضمّن أمرهم
__________________
(١) ينظر : المحتسب ٢ / ١٣ والبحر ٥ / ٥٣١ ، والدر المصون ٤ / ٣٦٧.
(٢) زيادة من : ب.
(٣) أخرجه أحمد (٥ / ٥٣١) والترمذي (٣١٢٨) وابن حبان (١٦٩٦ ـ موارد) والحاكم (٢ / ٣٥٨ ـ ٣٥٩) والبيهقي في «الدلائل» (٣ / ٢٨٩) من حديث أبي بن كعب.
وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.
وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.