بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم ، والحكم عليهم بالكفر والضلالة ، وذلك مما يشوش قلوبهم ، ويوحش صدورهم ، ويحمل أكثرهم على قصد ذلك الدّاعي بالقتل تارة ، وبالضرب ثانيا ، وبالشّتم ثالثا ، ثم إنّ ذلك الدّاعي المحقّ إذا تسمّع تك السّفاهات ، لا بد وأن يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء ؛ تارة بالقتل ، وتارة بالضرب ، فعند هذا أمر المحقّين في هذا المقام برعاية العدل والإنصاف ، وترك الزيادة ، فهذا هو الوجه الصحيح الذي يجب حمل الآية عليه.
فإن قيل : فكيف تقدحون فيما روي أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ترك العزم على المثلة ، وكفّر عن يمينه بسبب هذه الآية؟.
قلنا : لا حاجة إلى القدح في تلك الرواية ؛ لأنا نقول : تلك الواقعة داخلة في عموم هذه الآية ، فيمكن التمسّك بتلك الواقعة بعموم هذه الآية ، وذلك لا يوجب سوء الترتيب في كلام الله ـ تعالى ـ.
فصل
في هذه الآية دليل على جواز التماثل في القصاص ، فمن قتل بحديد قتل بمثلها ، ومن قتل بحجر ، قتل بمثله ، ولا يتعدى قدر الواجب ، واختلفوا فيمن ظلمه رجل فأخذ ماله ، ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال ، هل يجوز للمظلوم خيانة الظالم في القدر الذي ظلمه؟.
فقال ابن سيرين ، والنخعي ، وسفيان ، ومجاهد : له ذلك لعموم هذه الآية.
وقال مالك وجماعة : لا يجوز ؛ لقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» (١). رواه الدارقطني.
وقال القرطبي (٢) : «ووقع في مسند ابن إسحاق : أنّ هذا الحديث إنّما ورد في رجل زنا بامرأة آخر ، ثم تمكّن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر ، فاستشار ذلك الرجل رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الأمر ، فقال له : «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» وعلى هذا يقوى قول مالك ـ رضي الله عنه ـ في المال ؛ لأن الخيانة لاحقة في ذلك».
__________________
(١) أخرجه أبو داود (٣٥٣٤) والترمذي (١٢٦٤) وأحمد (٣ / ٤١٤) والدار قطني (٣ / ٣٥) والحاكم (٢ / ٤٦) وابن الجوزي في «العلل» (٢ / ١٠٢) من حديث أبي هريرة.
وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.
وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وأخرجه الدار قطني (٣ / ٣٥) والحاكم (٢ / ٤٦) والطبراني في «الكبير» (٧٦٠) وابن الجوزي في «العلل» (٢ / ١٠٢ ـ ١٠٣) من حديث أنس بن مالك.
(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٣٢.