بكر ـ رضي الله عنه ـ : «صدقت» ، فلمّا تمّ الكلام ، قال أبو بكر : «أشهد أنّك رسول الله حقّا» ، فقال الرسول صلىاللهعليهوسلم : «وأشهد أنّك صدّيق حقّا» (١).
وحاصل الكلام أنّ أبا بكر كأنه قال : لمّا سلمت رسالته فقد صدّقته فيما هو أعظم من هذا ، فكيف أكذّبه في هذا؟!.
الرابع : أكثر أرباب الملل والنّحل يسلّمون (٢) وجود إبليس ، ويسلّمون أنه هو الذي يلقي الوسوسة في قلوب بني آدم ، فلما جوّزوا مثل هذه الحركة السريعة في حقّ إبليس ويسلّمون ، فلأن يسلّموا جوازها في حقّ أكابر الأنبياء أولى ، وهذا الإلزام (٣) قوي على من يسلّم أنّ إبليس جسم ينتقل من مكان إلى مكان.
وأمّا من يقول : «إنه من الأرواح الخبيثة الشّرّيرة ، وأنّه ليس بجسم ، ولا جسمانيّ ، فلا يرد عليهم هذا الإلزام إلا أن أكثر أرباب الملل والنّحل يوافقون على أنه جسم لطيف ينتقل.
فإن قالوا : إنّ الملائكة والشياطين يصحّ في حقّهم مثل هذه الحركة السّريعة (٤) ، إلّا أنهم أجسام لطيفة ، فلا يمتنع حصول مثل هذه الحركة السريعة في ذواتها ، أمّا الإنسان فإنّه جسم كثيف ، وكيف يعقل حصول مثل هذه الحركة فيه؟ قلنا : نحن إنما استدللنا بأحوال (٥) الملائكة والشّياطين على أن حصول حركة منتهية في السّرعة إلى هذا الحدّ ممكن في نفس الأمر.
فأمّا بيان أنّ هذه الحركة ، لمّا كانت ممكنة الوجود في نفسها ، كانت أيضا ممكنة الحصول في جسم البدن الإنسانيّ ، فذاك مقام آخر يأتي تقريره إن شاء الله تعالى.
الخامس : أنه جاء في القرآن أنّ الرياح كانت تسير بسليمان ـ صلوات الله عليه ـ إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة ؛ قال تعالى : (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) [سبأ : ١٢] بل نقول : الحسّ يدل على أنّ الرياح تنتقل عند شدّة هبوبها من مكان إلى مكان في غاية البعد في اللّحظة الواحدة ، وذلك أيضا يدلّ على أنّ مثل هذه الحركة السريعة في نفسها ممكنة.
السادس : أن القرآن يدلّ على أنّ الذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى أقصى الشّام في مقدار لمح البصر ، قال تعالى : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) [النمل : ٤٠].
وإذا كان ذلك ممكنا في حقّ بعض النّاس ، علمنا أنه في نفسه ممكن.
__________________
(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١١٩).
(٢) في ب : يجوزون.
(٣) في أ: الإكرام.
(٤) في أ: الشريفة.
(٥) في أ: بأقوال.