قال قتادة : «إفسادهم في المرّة الأولى ما خالفوا من أحكام التوراة وركبوا المحارم» (١).
وقال ابن إسحاق : «إفسادهم في المرّة الأولى قتل شعيا في الشجرة ، وارتكابهم المعاصي»(٢).
(بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا).
قال قتادة : «يعني جالوت وجنوده ، وهو الذي قتله داود ، فذاك هو عود الكرّة» (٣).
وقال سعيد بن جبير : «سنحاريب من أرض نينوى» (٤) وقال ابن إسحاق : «بختنصّر البابليّ وأصحابه» وهو الأظهر ، فقتل منهم أربعين ألفا ممّن يقرأ التوراة ، وذهب بالبقيّة إلى أرضه ، فبقوا هناك في الذلّ إلى أن قيّض الله ملكا آخر من أهل بابل ، واتّفق أن تزوّج بامرأة من بني إسرائيل ، فطلبت تلك المرأة من ذلك الملك أن يردّ بني إسرائيل إلى بيت المقدس ، ففعل ، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء ، ورجعوا إلى أحسن ما كانوا ، وهو قوله : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ)(٥).
وقال آخرون : يعني بقوله : (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا) هو أنه تعالى ألقى الرّعب من بني إسرائيل في قلوب المجوس ، فلما كثرت المعاصي فيهم ، أزال ذلك الرعب عن قلوب المجوس ، فقصدوهم ، وبالغوا في قتلهم ، وإفنائهم ، وإهلاكهم.
واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض في معرفة الأقوام بأعيانهم ، بل المقصود هو أنهم لمّا أكثروا من المعاصي ، سلّط الله عليهم أقواما قتلوهم وأفنوهم.
فصل في الاحتجاج على صحة القضاء والقدر
احتجّوا بهذه الآية على صحّة القضاء والقدر من وجهين :
الأول (٦) : أنه تعالى قال : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) ، وهذا القضاء أقلّ احتمالاته الحكم الجزم والخبر الحتم ، فثبت أنّه تعالى أخبر عنهم أنهم سيقدمون على الفساد والمعاصي خبرا وجزما ، حتما ، لا يقبل النّسخ ؛ لأنّ القضاء معناه الحكم الجزم ، ثمّ إنه الله تعالى أكّد القضاء بقوله : (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً).
فنقول : عدم وقوع ذلك الفساد منهم يستلزم انقلاب خبر الله الصدق كذبا ، وانقلاب حكمه الجازم باطلا ، وانقلاب علمه الحقّ جهلا ، وكل ذلك محال ، فكان عدم إقدامهم
__________________
(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٠٦).
(٢) ينظر : المصدر السابق.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٩٩) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٠٦).
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٧) وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٠٦).
(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٠٦) والرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٢٤).
(٦) ينظر : الرازي ٢٠ / ١٢٥.