ثم قال : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) والمعنى : لعلّ ربّكم أن يرحمكم ، ويعفو عنكم يا بني إسرائيل بعد انتقامه منكم بردّ الدّولة إليكم.
(وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) أي : إن عدتم إلى المعصية ، عدنا إلى العقوبة ، قال القفال : «وإنّما حملنا هذه الآية على عذاب الدنيا ؛ لقوله تعالى في سورة الأعراف خبرا عن بني إسرائيل : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) [الأعراف : ١٦٧] ثم قال : (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) أي وإنهم قد عادوا إلى فعل ما لاينبغي ، وهو التكذيب بمحمدصلىاللهعليهوسلم وكتمان ما ورد في التوراة والإنجيل ، فعاد الله عليهم بالتعذيب على أيدي العرب ، فجرى على بني النضير ، وقريظة وبني قينقاع ، ويهود خيبر ما جرى من القتل والجلاء ، ثم الباقون منهم مقهورون بالجزية ، لا ملك لهم ولا سلطان. ثم قال تعالى : (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً).
يجوز أن تكون «حصيرا» بمعنى فاعل ، أي : حاصرة لهم ، محيطة بهم ، وعلى هذا : فكان ينبغي أن تؤنّث بالتاء كجبيرة. وأجيب : بأنها على النّسب ، أي ذات حصر ؛ كقوله : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) [المزمل : ١٨] ، أي ذات انفطار ، وقيل : الحصير : الحبس ، قال لبيد: [الكامل]
٣٣٨٧ ـ ومقامة غلب الرّجال كأنّهم |
|
جنّ لدى باب الحصير قيام (١) |
وقال أبو البقاء (٢) : «لم يؤنثه ؛ لأنّ فعيلا بمعنى فاعل» وهذا منه سهو ؛ لأنه يؤدّي إلى أن تكون الصفة التي على فعيل ، إذا كانت بمعنى فاعل ، جاز حذف التاء منها ، وليس كذلك لما تقدّم من أن فعيلا بمعنى فاعل يلزم تأنيثه ، وبمعنى مفعول يجب تذكيره ، وما جاء شاذّا من النوعين يؤوّل.
وقيل : إنما لم يؤنّث لأنّ تأنيث «جهنّم» مجازيّ.
وقيل : لأنها في معنى السّجن والمحبس ، وقيل : لأنها بمعنى فراش.
ويجوز أن تكون بمعنى مفعول أي : جعلناها موضعا محصورا لهم ، والمعنى : أنّ عذاب الدنيا ، وإن كان شديدا إلا أنّه قد يتفلّت بعض النّاس عنه ، والذي يقع فيه يتخلّص عنه إمّا بالموت ، أو بطريق آخر ، وأما عذاب الآخرة ، فإنّه يكون محيطا به ، لا رجاء في الخلاص منه.
قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٠)
قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) الآية.
__________________
(١) تقدم.
(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ٨٩.