فصل في المقصود ب «آيتين»
ومعنى «آيتين» أي : علامتين دالّتين على وجودنا ، ووحدانيتنا ، وقدرتنا.
قيل : المراد من الآيتين نفس الليل والنهار ، أي أنّه تعالى جعلهما دليلين للخلق على مصالح الدّين والدنيا.
أمّا في الدّين فلأنّ كلّ واحد منهما مضادّ للآخر ، مغاير له ، مع كونهما متعاقبين على الدّوام من أقوى الدلائل على أنهما غير موجودتين بذاتيهما ، بل لا بدّ لهما من فاعل يدبّرهما ، ويقدّرهما بالمقادير المخصوصة.
وأما في الدنيا ؛ فلأنّ مصالح الدنيا لا تتمّ إلا باللّيل والنّهار ، فلولا الليل ، لما حصل السّكون والرّاحة ، ولولا النهار ، لما حصل الكسب والتّصرّف.
ثم قال تعالى : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) وعلى هذا تكون الإضافة في آية الليل والنهار للتبيين ، والتقدير : فمحونا الآية الّتي هي الليل ، وجعلنا الآية الّتي هي النهار مبصرة ، ونظيره قولنا : نفس الشيء وذاته ، فكذلك آية الليل هي نفس الليل ، ومنه يقال : «دخلت بلاد خراسان» أي : دخلت البلاد الّتي هي خراسان ، فكذا هاهنا.
وقيل : على حذف مضاف ، أي : وجعلنا نيّري اللّيل والنهار ، وقد تقدّم.
وفي تفسير «المحو» قولان :
الأول : ما يظهر في القمر من الزيادة والنّقصان ، فيبدو في أوّل الأمر في صورة الهلال ، ثمّ يتزايد نوره ، حتّى يصير بدرا كاملا ، ثم ينقص قليلا قليلا ، وذلك هو المحو ، إلى أن يعود إلى المحاق.
والثاني : أنّ نور القمر هو الكلف الذي يظهر في وجهه ، يروى أن الشمس والقمر كانا سواء في النّور.
قال ابن عبّاس رضي الله عنه : «جعل الله تعالى نور الشّمس سبعين جزءا ، ونور القمر سبعين جزءا ، فمحا من نور القمر تسعة وستّين جزءا ، فجعلها مع نور الشّمس ، فأرسل الله تعالى جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ فأمرّ جناحه على وجه القمر ، فطمس عنه الضّوء» (١).
ومعنى «المحو» في اللغة : إذهاب الأثر ، تقول : محوته أمحوه ، وانمحى ، وامتحى : إذا ذهب أثره.
وحمل المحو هاهنا على الوجه الأوّل أولى ؛ لأنّ اللام في قوله : (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) متعلق بالوجه الأول ، وهو محو آية الليل ، وجعل آية
__________________
(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٠٧) عن ابن عباس وروي معناه عن عكرمة ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٠٢) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.