أحوال الوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، فقد صار مذكورا ، وإذا كان الأمر كذلك ، فقد أزيحت الأعذار ، وأزيلت العلل ، فلا جرم : كل من ورد عرصة القيامة ، ألزمناه طائره في عنقه ، ونقول له : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً).
وثانيها : أنه تعالى ، لمّا بيّن أنه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدّين والدنيا مثل آيتي الليل والنهار ، وغيرهما ، كان منعما عليهم بجميع وجوه النّعم ، وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته وطاعته ، فلا جرم : كلّ من ورد عرصة القيامة ، فإنه يكون مسئولا عن أعماله وأقواله.
وثالثها : أنه تعالى بيّن أنه ما خلق الخلق إلا ليشتغلوا بعبادته ، كما قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] فلما شرح أحوال الشمس والقمر والنهار والليل ، كان المعنى : إنما خلقت هذه الأشياء لتنتفعوا بها ، فتصيروا متمكّنين من الاشتغال بطاعتي وخدمتي ، وإذا كان كذلك ، فكل من ورد عرصة القيامة ، سألته ، هل أتى بتلك الخدمة والطّاعة ، أو تمرّد وعصى.
وقرىء «في عنقه» بإسكان النون وهو تخفيف شائع.
فصل
اختلفوا في الطائر ، فقال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : «عمله ، وما قدر عليه من خير أو شرّ ، فهو ملازمه ، أينما كان» (١).
وقال الكلبي ومقاتل : «خيره وشره معه لا يفارقه حتّى يحاسبه» ، وقال الحسن : يمنه وشؤمه ، وعن مجاهد : «ما من مولود إلّا في عنقه ورقة ، مكتوب فيها شقيّ أو سعيد» (٢).
وقال أهل المعاني : أراد بالطائر ما قضى عليه أنه عامله ، وما هو صائر إليه من سعادة أو شقاوة ، سمّي طائرا على عادة العرب فيما كانت تتفاءل وتتشاءم به من سوانح الطير وبوارحها ، فكانوا إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال ، وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى شرّ ، اعتبروا أحوال الطّير ، وهو أنه يطير بنفسه ، أو يحتاج إلى إزعاجه ، وإذا طار ، فهو يطير متيامنا أو متياسرا ، أو صاعدا إلى الجوّ ، أو إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ، ويستدلّون بكلّ واحد منها على أحوال الخير والشر بالطائر ، فلما كثر ذلك منهم ، سمي الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه ، ونظيره قوله تعالى : (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) [يس : ١٨] وقوله عزوجل : (قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) [يس : ١٩] فالمعنى : أنّ كلّ إنسان ألزمناه عمله في عنقه.
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٤٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٠٣) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٠٨).
(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٠٨) عن الكلبي ومقاتل.