بعض العلماء : إنّما هذا فيمن أوصى أن يناح عليه كما كان أهل الجاهليّة.
والجواب أنه يجب قبول أن الحديث لا يمكن ردّه (١) ؛ لثبوته وإقرار أعيان الصّحابة له على ظاهره.
وعائشة ـ رضي الله عنها ـ لم تخبر أنّ النبي صلىاللهعليهوسلم نفى ذلك ، وإنّما تأوّلت على ظاهر القرآن ، ومن أثبت وسمع حجة على من نفى وأنكر.
وظاهر القرآن لا حجّة فيه ؛ لأنّ الله ـ تعالى ـ نفى أن يحمل أحد من ذنب غيره شيئا ، والميّت لا يحمل من ذنب النائحة شيئا ، بل إثم النّوح عليها ، وهو قد يعذّب من جهة أخرى بطريق نوحها ، كمن سنّ سنّة سيئة ، مع من عمل بها ، ومن دعا إلى ضلالة ، مع من أجابه.
والحديث الذي روته حديث آخر لا يجوز أن يردّ به خبر الصّادق ؛ لأنّ القوم قد يشهدون كثيرا ممّا لا تشهد ، مع أنّ روايتها تحقّق ذلك الحديث ؛ فإنّ الله ـ تعالى ـ إذا جاز أن يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله ، جاز أن يعذّب الميت ابتداء ببكاء أهله.
ثم في حديث ابن رواحة وغيره ممّا تقدّم ما ينصّ على أن ذلك في المسلم ؛ فإنّ ابن رواحة كان مسلما ، ولم يوص بذلك ، ثمّ إنّ الصحابة الذين رووه ، لو فهموا منه الموصي ، لما عجبوا منه ، وأنكره من أنكره ؛ فإنّ من المعلوم أنّ من أمر بمنكر ، كان عليه إثمه ، ولو كان ذلك خاصّا بالموصي ، لما خص بالنّوح ، دون غيره من المنكرات ، ولا بالنّوح على نفسه ، دون غيره من الأموات.
وقال بعض العلماء : لمّا كان الغالب على النّاس النّوح على الميّت ، وهو من أمور الجاهليّة التي لا يدعونها في الإسلام ، ولا يتناهى عنها أكثر النّاس خرّج الحديث على الأعمّ الأغلب فيمن لم ينه عن النّائحة ، وهي عادة النّاس ، فيكون تركه للنّهي مع غلبة
__________________
(١) وخلاصة القول أن الأئمة قاطبة مجمعون على اتخاذ الحديث الصحيح قاعدة أساسية بعد كتاب الله تعالى وأنه يجب العمل به في القضاء والإفتاء ولو خالف مذاهبهم.
حتى أن بعضهم يعتصم بالحديث حتى كاد يقصر اجتهاده عليه ، وبعضهم أسس مذهبه على ظاهره وأنكر ما عداه ولا غرابة فإنه المعين الذي لا ينضب بعد كتاب الله ، فيه يجد المجتهد مجالا واسعا لاستنباط الأحكام وهو مفتاح القرآن ومرقاة الوصول إلى فهمه على وجهه فقد فصل ما أجمل وأحكم ما تشابه وكمل ما سكت عنه ـ وإذا كان الحديث بهذه المثابة فلا بأس أن نسرد أقوال الأئمة فيه ونبين مقدار تمسكهم به في تشريعهم فها هو الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول : إذا صح الحديث فهو مذهبي ، وإذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله فدعوا قولي وقولوا بسنة رسول الله. وقد سلك أصحابه هذا المسلك فكانوا يفتون بالحديث. بل كان بعضهم إذا رأى مسألة تعارض فيها الحديث ومذهب الشافعي أخذ بالحديث وأفتى به قائلا هكذا مذهب الشافعي وجاء في شرح الهداية لابن الشحنة : إذا صح الحديث وكان مخالفا للمذهب عمل بالحديث ويكون ذلك مذهب من صح عنده. ثم قال. لا يخرج مقلده عن كونه حنفيا بالعمل به. لما روي عن أبي حنيفة أن قال : إذا صح الحديث فهو مذهبي. وقد حكى ذلك ابن عبد البر عن أبي حنيفة وغيره من الأئمة.