أحدهما : أنه من الأمر الذي هو ضدّ النهي ، ثم اختلف القائلون بذلك في متعلق هذا الأمر ، فعن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ في آخرين : أنه أمرناهم بالطاعة ، ففسقوا ، وقد ردّ هذا الزمخشريّ ردّا شديدا ، وأنكره إنكارا بليغا في كلام طويل ، حاصله : أنه حذف ما لا دليل عليه ، وقدّر هو متعلق الأمر : الفسق ، أي : أمرناهم بالفسق ، قال : «أي : أمرناهم بالفسق ، فعملوا ، لأنه يقال : أمرته ، فقام ، وأمرته ، فقرأ ، وهذا لا يفهم منه إلا أنّ المأمور به قيام أو قراءة ، فكذا هاهنا ، لمّا قال : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها). وجب أن يكون المعنى : أمرناهم بالفسق ، ففسقوا ، ولا يقال : هذا يشكل بقوله : أمرته فعصاني ، أو فخالفني ؛ فإنّ هذا لا يفهم منه إلّا أنّ المأمور به قيام أو قراءة ، فكذا هاهنا ، كما قال : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها ، فَفَسَقُوا فِيها). وجب أن يكون المعنى : أمرناهم بالفسق ، ففسقوا ، ولايقال : هذا يشكل بقوله : أمرته فعصاني ، أو فخالفني ؛ فإنّ هذا لا يفهم منه أنّي أمرته بالمعصية ، والمخالفة ؛ لأنّ المعصية مخالفة للأمر ، ومناقضة له ، فيكون كونها مأمورا بها محالا.
فلهذا الضرورة تركنا هذا الظّاهر ، وقلنا : الأمر مجاز ؛ لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم : افسقوا ، وهذا لا يكون ، فبقي أن يكون مجازا ، ووجه المجاز : أنه صبّ عليهم النعمة صبّا ، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي ، واتّباع الشّهوات ، فكأنّهم مأمورون بذلك ؛ لتسبّب إيلاء النّعمة فيه ، وإنما خوّلهم فيها ليشكروا».
ثم قال : «فإن قلت : فهلّا زعمت أنّ معناه : أمرناهم بالطّاعة ففسقوا؟ قلت : لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز ، فكيف حذف ما الدليل قائم على نقيضه؟ وذلك أنّ المأمور به ، إنّما حذف لأنّ «ففسقوا» يدلّ عليه ، وهو كلام مستفيض ؛ يقال : «أمرته ، فقام» و«أمرته فقرأ» لا يفهم منه إلّا أن المأمور به قيام أو قراءة ، ولو ذهبت تقدّر غيره ، رمت من مخاطبك علم الغيب ، ولا يلزم [على] هذا قولهم : أمرته ، فعصاني» أو«فلم يمتثل» لأنّ ذلك مناف للأمر مناقض له ، ولا يكون ما يناقض الأمر مأمورا به ، فكان محالا أن يقصد أصلا ؛ حتّى يجعل دالّا على المأمور به ، فكان المأمور به في هذا الكلام غير منويّ ، ولا مراد ؛ لأن من يتكلّم بهذا الكلام لا ينوي لأمره مأمورا به ؛ فكأنّه يقول : كان منّي أمر ، فكان منه طاعة ، كما أنّ من يقول : «فلان يأمر وينهى ، ويعطي ويمنع» لا يقصد مفعولا.
فإن قلت : هلّا كان ثبوت العلم بأنّ الله لا يأمر بالفحشاء دليلا على أن المراد : أمرناهم بالخير؟.
قلت : لأنّ قوله «ففسقوا» يدافعه ؛ فكأنك أظهرت شيئا ، وأنت تضمر خلافه ، ونظير «أمر» : «شاء» في أن مفعوله استفاض حذف مفعوله ؛ لدلالة ما بعده عليه ؛ تقول : لو شاء ، لأحسن إليك ، ولو شاء ، لأساء إليك ، تريد : لو شاء الإحسان ، ولو شاء الإساءة ، ولو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت ، وقلت : قد دلّت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من