لكون «أمّرنا» من الإمارة ؛ لأنّ رئاستهم لا تكون إلّا لواحد بعد واحد ، والإهلاك إنّما يكون في مدّة واحدة». وردّ على الفارسي : بأنّا لا نسلم أنّ الأمير هو الملك ؛ حتى يلزم ما قلت ، بل الأمير عند العرب من يأمر ويؤتمر به ، ولئن سلّم ذلك ، لا يلزم ما قال ؛ لأنّ المترف إذا ملك ، ففسق ، ثم آخر بعده ، ففسق ، ثم كذلك ، كثر الفساد ، ونزل بهم على الآخر من ملوكهم العذاب ، واختار أبو عبيدة قراءة العامة وقال : فإنّ المعاني الثلاثة تجتمع فيها ، يعني : الأمر ، والإمارة ، والكثير.
المترف في اللغة : المنعّم ، والغنيّ : الّذي قد أبطرته النّعمة ، وسعة العيش.
قوله تعالى : (فَفَسَقُوا فِيها) أي : خرجوا عمّا أمرهم الله.
(فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) : أي : وجب عليها العذاب.
(فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) أي : خرّبناها ، وأهلكنا من فيها ، وهذا كالتقرير ، لقوله ـ تعالى ـ (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥]. وقوله تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) [القصص : ٥٩].
فصل في الاحتجاج لأهل السنة
استدلّ أهل السنة بهذه الآية على صحّة مذهبهم من وجوه :
الأول : أنّ ظاهر الآية يدل على أنّه تعالى أراد إهلاكهم ابتداء ، ثم توسّل إلى إهلاكهم بهذا الطريق ؛ وهذا يدلّ على أنّه تعالى أراد إيصال الضرر إليهم ابتداء.
الثاني : دلّ ظاهر الآية على أنّه ـ تعالى ـ إنما خصّ المترفين بذلك الأمر لعلمه بأنّهم يفسقون ، وذلك يدلّ على أنّه تعالى أراد منهم الفسق.
الثالث : أنه ـ تعالى ـ قال : (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) أي : حقّ عليها القول بالتّعذيب والكفر ، ومتى حقّ عليها القول بذلك ، امتنع صدور الإيمان منهم ؛ لأنّ ذلك لا يستلزم انقلاب خبر الله الصدق كذبا ، وذلك محال ، والمفضي إلى المحال محال.
قال الكعبيّ (١) ـ رحمهالله ـ إنّ سائر الآيات دلّت على أنّه ـ تعالى ـ لا يبتدىء بالتعذيب والإهلاك ؛ لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد : ١١]. وقوله عزوجل : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) [النساء : ١٤٧] وقوله ـ عز ذكره : (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) [القصص : ٥٩].
وكلّ هذه الآيات تدل على أنّه لا يبتدىء بالإضرار ، وأيضا : ما قبل هذه الآية يدلّ على هذا المعنى ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الإسراء : ١٥].
__________________
(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٤٠.