وأجاب الجبائيّ (١) فقال : ليس المراد من الآية أنّه تعالى يريد إهلاكهم قبل أن يعصوا ويستحقّوا ذلك ؛ لأنّه لا يظلم ، وهو على الله محال ، بل المراد من الإرادة قرب تلك الحالة ، فكان التقدير : وإذا قرب وقت إهلاك قرية أمرنا مترفيها ، ففسقوا فيها ، وهو كقول القائل : إذا أراد المريض أن يموت ازدادت أمراضه شدّة ، وإذا أراد التّاجر أن يفتقر أتاه الخسران من كلّ جهة ، وليس المراد أنّ المريض يريد أن يموت على الذّنوب ، والتّاجر يريد أن يفتقر ، وإنّما يعنون أنه سيصير كذلك ؛ فكذا هاهنا.
واعلم أنّ هذه الوجوه جواب عن الوجه الأوّل من الوجوه الثلاثة المتقدمة في التمسّك بهذه الآية ، وكلها عدول عن ظاهر اللفظ ، وأما الوجه الثاني والثالث فبقي سليما عن الطّعن.
قوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً)(١٧)
والمراد منه أنّ الطريق الذي ذكرناه هو عادتنا مع الذين يفسقون ، ويتمرّدون فيما تقدم من القرون الذين كانوا بعد نوح ؛ كعاد ، وثمود ، وغيرهم ، ثم إنه ـ تعالى ـ خاطب رسوله ـ صلوات الله عليه ـ بما يكون خطابا وردعا وزجرا للكلّ ، فقال جلّ ذكره : (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) وهذا تخويف لكفّار «مكّة».
و«كم» نصب بأهلكنا ، و«من القرون» تمييز ل «كم» و«من بعد نوح» : «من» لابتداء الغاية ، والأولى للبيان ، فلذلك اتّحد متعلقهما ، وقال الحوفيّ : «الثانية بدل من الأولى» ، وليس كذلك ؛ لاختلاف معنييهما ، والباء بعد «كفى» تقدم الكلام عليها ، وقال ابن عطيّة : «إنّما يجاء بهذه الباء في موضع مدح أو ذمّ» والباء في «بذنوب» متعلقة ب «خبيرا» وعلّقها الحوفيّ ب «كفى».
قال الفراء ـ رحمهالله ـ : لو ألغيت الباء ؛ من قوله : «بربّك» جاز ، وإنّما يجوز دخول الباء في المرفوع إذا كان يمدح به أو يذمّ ؛ كقولك : كفاك به ، وأكرم به رجلا ، وطاب بطعامك طعاما ، وجاد بثوبك ثوبا.
أما إذا لم يكن مدحا أو ذمّا ، لم يجز دخولها ، فلا يجوز أن يقال : «قام بأخيك» وأنت تريد : «قام أخوك».
فصل في مقدار القرن
قال عبد الله بن أبي أوفى : القرن : عشرون ومائة سنة ، فبعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم في أوّل قرن ، وكان آخره يزيد بن معاوية (٢) ، وقيل : مائة سنة.
__________________
(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٤١.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٥٤) وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٠٩).