الأفعال ، بل أضاف إليه تعليم الأقوال ، وهو أن يدعو لهما بالرّحمة ، فيقول : ربّ ارحمهما ، ولفظة الرحمة جامعة لكلّ الخيرات في الدّين والدنيا ، ثم يقول : (كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) يعني : ربّ افعل بهما هذا النوع من الإحسان ، كما أحسنا إليّ في تربيتهما ، والتربية هي التّنمية من قولهم: ربا الشّيء ، إذا انتفخ قال تعالى : (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) [الحج : ٥].
واختلف المفسرون في هذه الآية ، فقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : إنها منسوخة بقوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ١١٣] فلا ينبغي للمسلم أن يستغفر لوالديه إذا كانا مشركين ، ولا يقول : ربّ ارحمهما (١).
وقيل : إنها مخصوصة بالمسلمين غير منسوخة ، وهذا أولى من القول الأول ؛ لأنّ التخصيص أولى من النّسخ.
وقيل : لا نسخ ، ولا تخصيص ؛ لأنّ الوالدين ، إذا كانا كافرين ، فله أن يدعو لهما بالهداية والإرشاد ، وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان.
فصل في أنّ الأمر يفيد التكرار أم لا؟
قوله جلّ ذكره : (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما) أمر ، وظاهر الأمر لا يفيد التّكرار ، فيكفي في العمل بمقتضى هذه الآية ذكر هذا القول مرّة واحدة.
سئل سفيان : كم يدعو الإنسان لوالديه؟ أفي اليوم مرة ، أو في الشهر ، أو في السّنة؟ فقال : نرجو أن يجزئه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات ؛ كم قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ)(٢) [الأحزاب : ٥٦] فكانوا يرون أن التشهد يجزي عن الصلاة على النبيّ ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ.
وكقوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) [البقرة : ٢٠٣] فهم يكرّرون في أدبار الصلاة.
قوله تعالى : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً)(٢٥)
ثم قال تعالى : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) من برّ الوالدين وعقوقهما (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) ، أي : إنّا قد أمرناكم في هذه الآية بإخلاص العبادة لله ، وبالإحسان بالوالدين ،
__________________
(١) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» ص ١٦ رقم (٢٣) والطبري في «تفسيره» (٨ / ٦٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣١١) وزاد نسبته إلى أبي داود في ناسخه وابن المنذر من طرق عن ابن عباس.
(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٥٣).