إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(٣٥)
قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الآية.
اعلم أنه تعالى نهى عن الزّنا ، وقد ذكرنا أنه يوجب اختلاط الأنساب ، وذلك يوجب منع تربية الأولاد ، ويوجب انقطاع النّسل ، وذلك مانع من دخول الناس في الوجود ، فالنّهي عن الزّنا وعن القتل يرجع حاصله إلى النّهي عن إتلاف النفوس ، فلمّا ذكره تعالى أتبعه بالنّهي عن إتلاف الأموال ؛ لأنّ أعزّ الأشياء بعد النفوس الأموال ، وأحق الناس بالنّهي عن إتلاف أموالهم هو اليتيم ؛ لأنّه لصغره ، وضعفه ، وكمال عجزه يعظم ضرره بإتلاف ماله ؛ فلهذا خصّهم الله تعالى بالنهي عن إتلاف أموالهم ، فقال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) نظيره قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء : ٦].
المراد بقوله : (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي : إلّا بالتصرّف الذي ينمّيه ويكثّره.
وروى مجاهد عن ابن عبّاس ، قال : إذا احتاج أكل بالمعروف ، وإذا أيسر قضاه ، فإن لم يوسر ، فلا شيء عليه (١).
واعلم أنّ الوليّ ، إنّما تبقى ولايته على اليتيم إلى أن يبلغ أشدّه ، وهو بلوغ النّكاح ، كما بيّنه الله تعالى في قوله : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) [النساء : ٦].
المراد بالأشدّ هاهنا بلوغه إلى حيث يمكنه بسبب عقله ورشده القيام بمصالح ماله ، فحينئذ تزول ولاية غيره عنه ، فإن بلغ غير كامل العقل ، لم تزل الولاية عنه.
قوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) الآية.
اعلم أنّه تعالى أمر بخمسة أشياء أوّلا ، ثم نهى عن ثلاثة أشياء ، وهي الزّنا ، والقتل ، وأكل مال اليتيم ، ثمّ أتبعه بهذه الأوامر الثلاثة ، فالأول قوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ).
واعلم أنّ كلّ عقد يعقد لتوثيق أمر وتوكيده ، فهو عهد ؛ كعقد البيع والشّركة ، وعقد اليمين والنّذر ، وعقد الصلح ، وعقد النّكاح ، فمقتضى هذه الآية أنّ كلّ عهد وعقد يجري بين إنسانين ، فإنّه يجب عليهما الوفاء بذلك العقد والعهد ، إلّا إذا دلّ دليل منفصل على أنه لا يجب الوفاء به ، فمقتضاه الحكم بصحّة كل بيع وقع التراضي عليه ، وتأكّد هذا النصّ بسائر الآيات الدالة على الوفاء بالعهود والعقود ؛ كقوله عزوجل : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) [البقرة : ١٧٧] (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) [المؤمنون : ٨]
__________________
(١) تقدم في سورة النساء.