وقيل : القفو : هو البهت ، وأصله من القفا ؛ كأنه يقال : خلفه ، وهو في معنى الغيبة. واللفظ عامّ يتناول الكلّ ، فلا معنى للتقييد.
فصل في الرد على نفاة القياس
احتجّ نفاة القياس بهذه الآية ، قالوا : القياس لا يفيد إلّا الظنّ ، والظّن مغاير للعلم ، فالحكم في دين الله تعالى بالقياس حكم بغير العلم ؛ فوجب ألا يجوز لقوله تعالى (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ).
وأجيب عنه بوجوه :
الأول : أن الحكم في الدّين بمجرّد الظنّ جائز بإجماع الأمّة في صور كثيرة :
منها : العمل بالفتوى عمل بالظنّ.
ومنها : العمل بالشهادة عمل بالظّنّ.
ومنها : الاجتهاد في القبلة عمل بالظنّ.
ومنها : قيم المتلفات ، وأروش الجنايات عمل بالظنّ.
ومنها : الفصد ، والحجامة ، وسائر المعالجات ؛ بناء على الظنّ.
ومنها : كون هذه الذّبيحة ذبيحة مسلم مظنون.
ومنها : الحكم على الشّخص المعيّن بكونه مؤمنا مظنون ، ثم يبنى على هذا الظنّ أحكام كثيرة ، كالتوارث والدفن في مقابر المسلمين وغيرهما.
ومنها : الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار ، وطلب الأرباح ، والمعاملات إلى الآجال المخصوصة ، والاعتماد على صداقة الأصدقاء ، وعداوة الأعداء كلّها مظنونة ، وبناء الأمر على هذه الظنون جائز ، وقال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «نحن نحكم بالظّاهر والله يتولّى السّرائر» (١).
__________________
(١) ذكره الحافظ السخاوي في «المقاصد الحسنة» ص (٩١) رقم (١٧٨) وقال : اشتهر بين الأصوليين والفقهاء ، بل وقع في شرح مسلم للنووي في قوله صلىاللهعليهوسلم : إنّي لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ، ولا أشق بطونهم ، ما نصه معناه : إني أمرت بالحكم الظاهر ، والله يتولى السرائر ، كما قال صلىاللهعليهوسلم انتهى ، ولا وجود له في كتب الحديث المشهورة ، ولا الأجزاء المنثورة ، وجزم العراقي بأنه لا أصل له ، وكذا أنكره المزي وغيره ، نعم في صحيح البخاري عن عمر إنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم ، بل وفي الصحيح من حديث أبي سعيد رفعه : إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ، وفي المتفق عليه من حديث أم سلمة إنكم تختصمون إليّ فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه ، فلا يأخذ منه شيئا ، قال ابن كثير : إنه يؤخذ معناه منه ، وقد ترجم له النسائي في سننه ، باب الحكم بالظاهر ، وقال إمامنا ناصر السنة أبو عبد الله الشافعي رحمهالله عقب إيراده في كتاب الأم : فأخبرهمصلىاللهعليهوسلم أنه إنما يقضي بالظاهر ، وأن أمر السرائر إلى الله ، والظاهر كما قال شيخنا رحمهالله ، أن بعض من لا يميز ظن هذا حديثا آخر منفصلا عن ـ