الأول : معناه أنّ صاحب السّمع ، والبصر ، والفؤاد هو المسئول ؛ لأنّ السؤال لا يصحّ إلّا من العاقل ، وهذه الجوارح ليست كذلك ، بل العاقل الفاهم هو الإنسان ، فهو كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] والمراد أهلها ، والمعنى أن يقال للإنسان : لم سمعت ما لا يحلّ سماعه ، ولم نظرت إلى ما لا يحلّ لك نظره ، ولم عزمت على ما لا يحلّ لك العزم عليه.
والثاني : أن أولئك الأقوام كلهم مسئولون عن السمع ، والبصر ، والفؤاد ، فيقال لهم : استعملتم السمع فيماذا ، أفي الطاعة ، أو في المعصية؟ وكذلك القول في بقيّة الأعضاء ، وذلك ؛ لأنّ الحواسّ آلات النّفس ، والنّفس كالأمير لها ، والمستعمل لها في مصالحها ، فإن استعملها في الخيرات ، استوجب الثواب ، وإذا استعملها في المعاصي ، استحقّ العقاب.
والثالث : أنه تعالى يخلق الحياة في الأعضاء ، ثمّ إنها تسأل ؛ لقوله تعالى : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النور : ٢٤] فكذلك لا يبعد أن يخلق العقل ، والحياة ، والنطق في هذه الأعضاء ، ثمّ إنّها تسأل.
روي عن شكل بن حميد ـ رحمهالله ـ قال : أتيت النبي صلىاللهعليهوسلم فقلت : يا رسول الله ، علّمني تعويذا ، أتعوّذ به ، فأخذ بيدي ، ثم قال : «قل اللهمّ ؛ أعوذ بك من شرّ سمعي ، وشرّ بصري ، وشرّ لساني ، وشرّ قلبي ، وشرّ منيّي» قال فحفظتها (١).
قال سعيد : والمنيّ ماؤه.
قوله تعالى : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً)(٣٧)
وهذا هو النهي الثاني.
قوله تعالى : «مرحا» : العامة على فتح الراء ، وفيه أوجه :
أحدها : أنه مصدر واقع موقع الحال ، أي : مرحا بكسر الراء ، ويدل عليه قراءة (٢) بعضهم فيما حكاه يعقوب «مرحا» بالكسر.
قال الزجاج : «مرحا» مصدر ، ومرحا : اسم الفاعل ، وكلاهما جائز ، إلا أن المصدر هنا أحسن وأوكد ، تقول : جاء زيد ركضا وراكضا ، وآكد ؛ لأنه يدل على توكيد الفعل.
الثاني : أنه على حذف مضاف ، أي : ذا مرح.
__________________
(١) أخرجه أبو داود ٢ / ٩٢ ، كتاب الصلاة : باب الاستعاذة (١٥٥١) ، والترمذي ٥ / ٤٨٩ ، كتاب الدعوات : حديث (٣٤٩٢) ، والنسائي ٨ / ٢٥٩ كتاب الاستعاذة : باب من شر السمع والبصر (٥٤٥٥).
فائدة : شكل بن حميد العبسي صحابي جليل ليس له سوى هذا الحديث كذا جزم الحافظ المزي في تحفة الأشراف ٤ / ١٥٦.
(٢) نسبها في الشواذ ٧٦ إلى يحيى بن يعمر ، وينظر : القرطبي ١٠ / ١٧٠ ، والكشاف ٢ / ٦٦٧ ، والبحر ٦ / ٣٤ ، والدر المصون ٤ / ٣٩١.