الأديان والملل ، ولا تقبل النّسخ والإبطال ، فكانت محكمة وحكمة من هذه الاعتبارات.
الثالث : أنّ الحكمة عبارة عن معرفة الحقّ لذاته ، والخير لأجل العمل به ؛ فالأمر بالتوحيد عبارة عن القسم الأوّل ، وسائر التكاليف عبارة عن تعلّم الخيرات ؛ لأجل العمل بها.
روي عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ أنّ هذه التكاليف المذكورة كانت في ألواح موسى ـ صلوات الله عليه ـ أولها (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ)(١).
قال تعالى : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً) [الأعراف : ١٤٥].
فكلّ ما أمر الله به أو نهى عنه ، فهو حكمة.
قوله تعالى : (مِنَ الْحِكْمَةِ) يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون حالا من عائد الموصول المحذوف ، تقديره : من الذي أوحاه حال كونه من الحكمة ، أو حال من نفس الموصول.
الثاني : أنه متعلق ب «أوحى» ، و«من» إمّا تبعيضية ؛ لأنّ ذلك بعض الحكمة ، وإمّا للابتداء ، وإما للبيان. وحينئذ تتعلق بمحذوف.
الثالث : أنها مع مجرورها بدل من (مِمَّا أَوْحى).
فصل
ذكر في الآية أنّ المشرك يكون مذموما مخذولا.
وذكر هاهنا أنّ المشرك يلقى في جهنّم ملوما مدحورا ، فاللّوم والخذلان يحصل في الدنيا ، وإلقاؤه في جهنّم يحصل يوم القيامة ، والفرق بين الملوم والمدحور ، وبين المذموم والمخذول : أنّ معنى كونه مذموما : أن يذكر له أنّ الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر ، وإذا ذكر له ذلك ، فعند ذلك يقال له : لم فعلت هذا الفعل؟ وما الذي حملك عليه؟ وما استفدت من هذا العمل ، إلّا إلحاق الضّرر بنفسك؟ وهذا هو اللّوم.
وأما الفرق بين المخذول وبين المدحور ، فهو أنّ المخذول هو الضعيف ، يقال : تخاذلت أعضاؤه ، أي : ضعفت ، والمدحور هو المطرود ، والطّرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة ، فكونه مخذولا عبارة عن ترك إعانته ، وتفويضه إلى نفسه ، وكونه مدحورا عبارة عن إهانته ، فيصير أوّل الأمر مخذولا وآخره يصير مدحورا.
قوله تعالى : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً)(٤٠)
قوله تعالى : (أَفَأَصْفاكُمْ) : ألف «أصفى» عن واو ؛ لأنه من «صفا يصفو» وهو استفهام إنكار وتوبيخ.
__________________
(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٣٠) وعزاه إلى الطبري.