قوله بعد هذا (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ) [الإسراء : ٤٣] ، قرأه بالخطاب الأخوان ، والباقون بالغيبة فتحصّل من مجموع الأمر : أنّ ابن كثير وحفصا يقرآنهما بالغيبة ، وأن الأخوين قرءوا بالخطاب فيهما ، وأن الباقين قرءوا بالغيبة في الأول ، وبالخطاب في الثاني.
فوجه قراءة الغيب فيهما أنه : حمل الأوّل على قوله : (وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) [الإسراء : ٤١] ، وحمل الثاني عليه ، ووجه الخطاب فيهما : أنه حمل الأوّل على معنى : قل لهم يا محمد لو كان معه آلهة كما تقولون ، وحمل الثاني عليه.
ووجه الغيب في الأول : أنه حمله على قوله (وَما يَزِيدُهُمْ) والثاني التفت فيه إلى خطابهم.
قوله : «إذن» حرف جواب وجزاء ، قال الزمخشريّ : وإذن دالّة على أنّ ما بعدها ، وهو «لابتغوا» جواب لمقالة المشركين ، وجزاء ل «لو».
وأدغم أبو عمرو الشين في السين ، واستضعفها النحاة ؛ لقوّة الشّين.
فصل في معنى الآية
المعنى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : (لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا) لطلبوا ـ يعني الآلهة ـ (إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) بالمغالبة والقهر ؛ ليزيلوا ملكه ؛ كفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض ، وهذا يرجع إلى دليل التمانع ، وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ عند قوله ـ عزوجل ـ في سورة الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] وقيل : المعنى : لطلبوا ـ يعني الآلهة ـ (إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) بالتقرّب إليه ، لأنّ الكفار كانوا يقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣].
فقال تعالى : لو كانت هذه الأصنام تقربكم إلى الله زلفى ، لطلبت لأنفسها أيضا القرب إلى الله تعالى ، فكيف يعقل أن تقربكم إلى الله ، ثم نزّه نفسه فقال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً).
قوله تعالى : (وَتَعالى) : عطف على ما تضمّنه المصدر ، تقديره : تنزّه وتعالى. و«عن» متعلقة به ، أو ب «سبحان» على الإعمال لأنّ «عن» تعلقت به في قوله (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الصافات : ١٨٠] و«علوّا» مصدر واقع موقع التعالي ؛ لأنّه كان يجب أن يقال : تعاليا كبيرا ، فهو على غير المصدر كقوله : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] [في كونه على غير الصدر]. والتّسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عمّا لا يليق به.
والفائدة في وصف ذلك العلوّ بالكبر : أنّ المنافاة بين ذاته وصفاته سبحانه وبين ثبوت الصّاحبة ، والولد ، والشّركاء ، والأضداد ، والأنداد ، منافاة بلغت في القوّة والكمال إلى حيث لا تعقل الزيادة عليها ؛ لأنّ المنافاة بين الواجب لذاته ، والممكن لذاته ، وبين القديم والمحدث ، وبين الغنيّ والمحتاج منافاة لا يعقل الزيادة عليها ، فلهذا السبب وصف الله تعالى ذلك العلو بالكبر.