فصل
تقرير شبهة القوم : هو أنّ الإنسان ، إذا جفّت أعضاؤه ، وتناثرت وتفرّقت في جوانب العالم ، واختلطت تلك الأجزاء بسائر أجزاء العالم ، فالأجزاء المائيّة (١) تختلط بمياه العالم ، والأجزاء الترابيّة تختلط بالتّراب ، والأجزاء الهوائيّة تختلط بالهواء ، وإذا كان كذلك ، فكيف يعقل اجتماعها بأعيانها مرّة أخرى ، وكيف يعقل عود الحياة إليها بأعيانها مرة أخرى؟! هذا تقرير شبهتهم.
والجواب عنها : أن هذا الإشكال لا يتمّ إلّا بالقدح في كمال علم الله تعالى ، وفي كمال قدرته.
أمّا إذا سلّمنا كونه تعالى عالما بجميع الجزئيات ، فحينئذ ، هذه الأجزاء ، وإن اختلطت بأجزاء العالم ، إلّا أنها متميّزة في علم الله تعالى ، ولما سلّم كونه ـ تعالى ـ قادرا على كلّ الممكنات ، كان قادرا على إعادة التأليف والتركيب ، والحياة ، والعقل ، إلى تلك الأجزاء بأعيانها ، فمتى سلم كمال علم الله تعالى ، وكمال قدرته ، زالت هذه الشبهة بالكليّة.
ثم قال تعالى : (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) وذلك أنّهم استبعدوا أن يردّهم أحياء بعد أن صاروا عظاما ورفاتا ، فإنّها صفة منافية لقبول الحياة بحسب الظاهر ، فقال : ولقد قدرتم أنّ هذه الأجسام بعد الموت تصير إلى صفة أخرى أشدّ منافاة لقبول الحياة من كونها عظاما ورفاتا ؛ مثل أن تصير حجارة أو حديدا ؛ فإنّ المنافاة بين الحجرية والحديدية وبين قبول الحياة أشدّ من المنافاة بين العظميّة وبين قبول الحياة ؛ لأنّ العظم كان جزءا من بدن الحيّ ، وأمّا الحجارة والحديد ، فما كانا ألبتّة موصوفين بالحياة ، فبتقدير أن تصير أبدان الناس حجارة أو حديدا بعد الموت ، فإن الله تعالى يعيد الحياة إليها ، ويجعلها حية عاقلة ، كما كان ، والدليل على صحّة ذلك أن تلك الأجسام قابلة للحياة والعقل ؛ إذ لو لم يكن القبول حاصلا ، لما حصل العقل والحياة لها في أوّل الأمر ، وإله العالم عالم بجميع الجزئيّات ، فلا يشتبه عليه أجزاء بدن زيد المطيع بأجزاء بدن عمرو العاصي ، وقادر على كل الممكنات.
وإذا ثبت أنّ عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكن في نفسه ، وثبت أنّ إله العالم عالم بجميع المعلومات ، قادر على كلّ الممكنات ، كان عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكنا قطعا سواء صارت عظاما ورفاتا أو أشياء أبعد من العظم في قبول الحياة ، مثل أن تصير حجارة أو حديدا ، وهذا ليس المراد منه الأمر ، بل المراد أنّكم لو كنتم كذلك ، لما أعجزتم الله تعالى عن الإعادة ؛ كقول القائل للرجل : أتطمع فيّ ، وأنا ابن فلان؟!! فيقول : كن من شئت كن ابن الخليفة فسأطلب منك حقّي. ثم قال تعالى : (أَوْ خَلْقاً مِمَّا
__________________
(١) في ب : الماهية.