ثم قال تعالى : (وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ) أي التخويف (إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) ، أي : تمرّدا وعتوا عظيما ، والمقصود من ذلك وجه آخر في أنّه ما أظهر المعجزات التي اقترحوها ؛ لأنّ هؤلاء خوفوا بأشياء كثيرة من الدنيا والآخرة ، وبشجرة الزّقوم ، فما زادهم هذا التخويف إلّا طغيانا كبيرا ؛ وذلك يدلّ على قسوة قلوبهم ، وتماديهم في الغيّ والطّغيان.
وإذا كان كذلك فبتقدير أن يظهر الله لهم تلك المعجزات التي اقترحوها ، لم ينتفعوا بها ، ولم يزدادوا إلّا تماديا في الجهل والعناد ، وإذا كان كذلك ، وجب في الحكمة ألّا يظهر الله لهم ما اقترحوه من الآيات والمعجزات.
قرأ العامة «ونخوّفهم» بنون العظمة ، والأعمش (١) بياء الغيبة.
قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً)(٦١)
في النظم وجوه :
أولها : أنه تعالى ، لمّا ذكر أنّ الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كان في محنة عظيمة من قومه ، بيّن أنّ حال جميع الأنبياء مع أهل زمانهم كذلك ؛ ألا ترى أنّ الأول منهم آدم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ثمّ إنّه كان في محنة من إبليس.
وثانيها : أنّ القوم ، إنّما نازعوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعاندوه ، واقترحوا عليه الاقتراحات الباطلة لأمرين : الكبر والحسد ، فبيّن سبحانه وتعالى أنّ هذا الكبر والحسد هما اللذان حملا إبليس على الكفر ، والخروج من الإيمان ، فهذه بليّة عظيمة قديمة.
وثالثها : أنّهم لما وصفهم الله تعالى بقوله : (فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) بيّن ما هو السبب لحصول هذا الطّغيان ، وهو قول إبليس «لأحتنكنّ ذريته إلا قليلا» فلهذا المقصود ذكر الله تعالى قصّة آدم وإبليس.
واعلم أنّ هذه القصّة ذكرها الله تعالى في سبع سور ؛ البقرة ، والأعراف ، والحجر ، وهذه السورة ، والكهف ، وطه ، وص ، وقد تقدم الاستقصاء عليها في البقرة ، فليلتفت إليه. وقوله : (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) استفهام بمعنى الإنكار ، معناه : أنّ أصلي أشرف من أصله ؛ فوجب أن أكون أشرف منه ، والأشرف لا يخدم الأدنى.
قوله تعالى : «طينا» : فيه أوجه :
أحدها : أنه حال من «لمن» فالعامل فيها «أأسجد» أو من عائد هذا الموصول ، أي: خلقته طينا ، فالعامل فيها «خلقت» وجاز وقوع طين حالا ، وإن كان جامدا ، لدلالته على الأصالة ؛ كأنه قال : متأصّلا من طين.
__________________
(١) ينظر : البحر ٦ / ٥٤ ، والإتحاف ٢ / ٢٠٠ ونسبها إلى المطوعي.