ثم قال : (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً).
الفتيل : القشرة التي في شقّ النّواة ، وسمّي بذلك ؛ لأنّه إذا رام الإنسان إخراجه انفتل ، وهذا مثل يضرب للشّيء الحقير التّافه ، ومثله : القطمير والنّقير.
والمعنى : لا ينقصون من الثواب بمقدار فتيل ونظيره (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) وروى مجاهد عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : الفتيل هو الوسخ الذي يفتله الإنسان بين سبّابته وإبهامه(١).
وهو فعيل بمعنى مفعول.
فإن قيل : لم خصّ أصحاب اليمين بقراءة كتابهم ، مع أنّ أهل الشّمال يقرءونه؟! فالجواب (٢) : الفرق بينهما أنّ أهل الشّمال ، إذا طالعوا كتابهم ، وجدوه مشتملا على المهلكات العظيمة ، والقبائح الكاملة ، والمخازي الشديدة ، فيستولي الخوف والدهشة على قلبهم ، ويثقل لسانهم ، فيعجزوا عن القراءة الكاملة ، وأما أصحاب اليمين ، فعلى العكس ، فلا جرم أنّهم يقرءون كتابهم على أحسن الوجوه ، ثم لا يكتفون بقراءتهم وحدهم ، بل يقولون لأهل المحشر : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) [الحاقة : ١٩] فظهر الفرق.
قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً)(٧٢)
قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ) : يجوز في «من» ما جاز في «من» قبلها ، وأمال الأخوان وأبو بكر (٣) «أعمى» في الموضعين من هذه السورة ، وأبو عمرو أمال الأول ، دون الثاني ، والباقون فتحوهما ، فالإمالة ؛ لكونهما من ذوات الياء ، والتفخيم ؛ لأنه الأصل ، وأمّا أبو عمرو ، فأمال الأول ؛ لأنه ليس أفعل تفضيل ، فألفه متطرفة لفظا وتقديرا ، والأطراف محل التغيير غالبا ، وأمّا الثاني ، فإنه للتفضيل ، ولذلك عطف عليه «وأضلّ» فألفه في حكم المتوسطة ؛ لأنّ «من» الجارّة للمفضول ، كالملفوظ بها ، وهي شديدة الاتصال بأفعل التفضيل ، فكأنّ الألف وقعت حشوا ، فتحصّنت عن التغيير.
كذا قرّره الفارسي والزمخشري ، وقد ردّ هذا بأنهم أمالوا (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ) مع التصريح ب «من» فلأن يميلوا «أعمى» مقدرا معه «من» أولى وأحرى.
وأمّا «أعمى» في طه [الآية : ١٢٤] فأماله الأخوان ، وأبو عمرو ، ولم يمله أبو بكر ، وإن كان يميله هنا ، وكأنه جمع بين الأمرين ، وهو مقيّد باتّباع الأثر ، وقد فرّق بعضهم :
__________________
(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢١ / ١٧).
(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٥.
(٣) ينظر : السبعة ٣٨٣ ، والتيسير ١٤٠ ، والحجة ٢٤٠٧ ، والنشر ٢ / ٥٤ والإتحاف ٢ / ٢٠٢ والحجة للقراء السبعة ٥ / ١١٢ ، والقرطبي ١٠ / ١٩٤ ، وروح المعاني ١٥ / ١٢٣ ، والوسيط ٣ / ١١٩ ، والدر المصون ٤ / ٤١٠.