قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً)(٧٥)
لما عدد في الآيات المتقدمة أقسام نعمه على خلقه ، وأتبعها بذكر درجات الخلق في الآخرة ، أردفه بما يجري مجرى تحذير الناس عن الاغترار بوساوس أرباب الضلال والانخداع بكلماتهم المشتملة على المكر والتّلبيس ، فقال عزوجل : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ).
روى عطاء عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في وفد ثقيف أتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقالوا : نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال ، قال : وما هنّ؟ قالوا : ألّا نحني في الصّلاة أي لا ننحني ولا نكسر أصنامنا بأيدينا ، وأن تمتّعنا باللّات سنة ، من غير أن نعبدها ، فقال النبيّصلىاللهعليهوسلم : «لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود ، وأمّا أن تكسروا أصنامكم بأيديكم فذلك لكم ، وأمّا الطّاغية يعني اللّات فإنّني غير ممتّعكم بها (١). وفي رواية : «وحرّم وادينا ، كما حرّمت مكّة شجرها ، وطيرها ، ووحشها ، فأبى ذلك رسول الله (٢) صلىاللهعليهوسلم ولم يجبهم ، فقالوا : يا رسول الله إنّا نحبّ أن تسمع العرب أنّك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا ، وإنّي خشيت أن تقول العرب : أعطيتهم ما لم تعطنا ، فقل : الله أمرني بذلك ، فسكت النبيّ صلىاللهعليهوسلم فطمع القوم في سكوته أن يعطيهم ، فصاح عليهم عليّ وعمر ـ رضي الله عنهما ـ وقالوا : أما ترون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد أمسك عن الكلام ؛ كراهيّة لما تذكرونه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية».
وقال سعيد بن جبير : كان النبيّ صلىاللهعليهوسلم يستلم الحجر الأسود ، فمنعته قريش ، وقالوا : لا ندعك ، حتّى تلم بآلهتنا وتمسّها ، فحدّث نفسه ؛ ما عليّ إذا فعلت ذلك ، والله يعلم أنّي لها كاره ، بعد أن يدعوني ، حتّى أستلم الحجر ، فأنزل الله هذه (٣).
وروى الزمخشريّ أنّهم جاءوا بكتابهم ، فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كتاب من محمّد رسول الله إلى ثقيف : لا يعشرون ، ولا يحشرون ، فسكت رسول الله ، ثم قالوا للكاتب : اكتب ولا يجبون والكاتب ينظر إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقام عمر بن الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ وسلّ سيفه ، وقال : أسعرتم قلب نبيّنا يا ثقيف ، أسعر الله قلوبكم نارا ، فقالوا : لسنا نكلّمك ، إنّما نكلّم محمدا ، فنزلت الآية ، وهذه القصّة إنّما وقعت بالمدينة ؛ فلهذا قيل : إنّ هذه الآيات مدنية.
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١١٩) وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٢٦ ـ ١٢٧).
(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٧.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١١٨ ـ ١١٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٥٢) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.